” خاوة خاوة” قدر جغرافي وإنساني بين المغرب والجزائر

0

الگارح ابوسالم: Cap24 – 

قبل أكثر من ثلاثين عامًا، انتهت الحرب الباردة بسقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي، غير أن أصداءها ظلت تتردد في منطقة المغرب الكبير، حيث تجمد الزمن السياسي عند صراعات الماضي، وواصلت الأنظمة ترديد شعارات أكل عليها الدهر وشرب، وكأن العالم لم يتغير من حولها.
النزاع المفتعل حول الصحراء لم يكن سوى أحد تجليات هذا الإرث الثقيل، الذي وجد فيه بعض الحكام تبريرًا لوجودهم، ومتنفسًا لتحويل الأنظار عن أزمات الداخل.
منذ استقلال الجزائر سنة 1962، انطلقت علاقة الجارين في مسار متوتر، غذّته رواسب الاستعمار وتناقضات الرؤية إلى المستقبل. جاءت حرب الرمال عام 1963 لتزرع أول بذرة للخصومة، ثم ساهمت الظروف الدولية للحرب الباردة في توسيع الهوة، حيث انحاز كل طرف لمعسكر مختلف. وبينما انشغل المغرب ببناء مؤسساته واستكمال وحدته الترابية، انخرط النظام الجزائري في لعبة النفوذ الإقليمي، محاولًا فرض زعامة عبر ملفات خارجية، كان أبرزها ما سُمّي بـ«قضية الصحرا».
خلال خمسة عقود، تغيّر العالم وتبدلت التحالفات، إلا أن الخطاب الرسمي الجزائري ظل جامدًا، يتغذى من وهم المواجهة، ويُصرّ على إنكار حقائق التاريخ والجغرافيا. كلما لاح في الأفق بصيص أمل للمصالحة، سرعان ما تخمده الحسابات الضيقة للمؤسسة العسكرية التي جعلت من العداء للمغرب عقيدة سياسية تشدّ بها أركان الحكم.
وحين حاول قادة جزائريون عقلانيون فتح نوافذ الحوار، كانت النتيجة الإقصاء أو الاغتيال؛ من الشاذلي بن جديد الذي أطلق مشروع الاتحاد المغاربي ثم أُبعد، إلى محمد بوضياف الذي عاد ليستعيد روح المصالحة فاغتيل في لحظة كان يحاول فيها إعادة الجزائر إلى موقعها الطبيعي ضمن الفضاء المغاربي.

اليوم، وبعد مرور نصف قرن على هذا النزاع، تبرز حقيقة لا تحتاج إلى تأويل: الخاسر الأكبر في هذه المعادلة هو الشعب الجزائري نفسه.
شعبٌ ابتُلي بأنظمة متعاقبة استنزفت خيرات البلاد في معارك وهمية، بدل أن توجّه ثرواته نحو التنمية والعدالة الاجتماعية. شعبٌ كان يستحق أن يعيش في استقرار وازدهار إلى جانب أشقائه في المغرب، لا أن يُزجّ به في صراع عبثي أصبح يعيق مستقبل المنطقة برمّتها.
وفي مقابل هذا الانغلاق، حافظ المغرب على نهج هادئ ومتزن، اختار منطق البناء بدل الهدم، ومدّ اليد إلى الجار مرارًا، إيمانًا بأن التاريخ والجغرافيا والدم والمصير المشترك أقوى من الخلافات السياسية.
الملف لم يعد اليوم ساحة لتصفية الحسابات، بل مرآة تعكس الحاجة إلى مراجعة عميقة للسياسات الإقليمية، ومناسبة لفتح صفحة جديدة تُعيد الاعتبار لمنطق العقل والمصلحة المشتركة.
إنّ ما يجري اليوم ليس لحظة انتصار لطرف على آخر، بل فرصة لتحرير المنطقة من قيود الماضي، وبداية مرحلة يمكن أن تُعيد للمغرب الكبير روحه المفقودة. المصالحة ليست شعارًا للاستهلاك، بل مشروع وجود، يحتاج إلى شجاعة سياسية وإرادة صادقة.
ولعلّ اللحظة التي نعيشها تشكّل منعطفًا تاريخيًا للنظام الجزائري كي يلتفت إلى الداخل، ويمنح شعبه حقه في الاستقرار والازدهار، بدل أن يبقى أسير قضايا انتهت صلاحيتها.
إنّ من عليه أن يقرّر مصيره اليوم ليس «شعبًا افتراضيًا» في مخيمات التيه، بل الشعب الجزائري الشقيق الذي آن له أن يتحرر من ثقل الماضي ومن منطق الوصاية.
المغرب مدّ يده وسيظلّ متمسكًا بخيار الحوار وحسن الجوار، إيمانًا بأن «خاوة خاوة» ليست شعارًا، بل قدر جغرافي وإنساني يجمع شعبين لا يفصل بينهما سوى سوء التقدير.
ولا غالب ولا مغلوب، ما دامت الغاية هي بناء مستقبل واحد، عنوانه: الاستقرار، التنمية، والعيش المشترك في فضاء مغاربي يسع الجميع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.