ليس من السهل أن تكون ملكا وليس لأي كان أن يكون جده الملك محمد الخامس وأن يكون والده الملك الحسن الثاني، وفوق كل ذلك أن يكون من سليل الدوحة النبوية. ولأنه الحفيظ والإبن الوارث لسرهما كما لخصالهما،لابد من أن تجتمع فيه حكمة الجد وذكاء الأب. ومن سار على هذا النهج فهو ملك من الملوك الكبار. هؤلاء أرادهم الله أن يكونوا خليفة له في أرضه. ولأنهم على هذا الحال كملوك مصلحين قد ينأون بأنفسهم من الوقوع والانزلاق في ألاعيب الصغار مترفعين كما عهدناهم أن ينجروا إلى مضيعة الوقت في لعبة الشد والجذب والانشغال بالتفاهات والحسابات الضيقة التي غالبا ما تكون على حساب الشعوب.، كما هو الحال عند بعض من ابتليت بهم الدهماء.
لقد كان الخطاب الملكي الذي ألقي على نواب الأمة، خير معبر على ما هو عليه ملك البلاد من حكمة وتبصر وتروي وقراءة متأنية وواقعية بعيدا كل البعد عن الغوغائية والمزايدات الرخيصة التي لا تجدي نفعا وخيرا للبلاد والعباد. وعلى عكس ما كان ينتظره البعض من خارج الوطن أن تكون مناسبة افتتاح الدورة البرلمانية فرصة للدخول في لعبة ما هو متعارف عليه “بلعبة اليد الحديدية”، خيب ظنهم الرجل الحكيم والقائد المحنك بهدوئه المعهود ورباطة جأشه، ليفحمهم بخطاب لا يمكن فهمه إلا من خلال الرسائل التي عبر عنها جلالته بشكل مباشر، ورسائل أخرى لم يكن من الضروري أن يأتي الخطاب على ذكرها بل كان الإمساك عن الحديث عنها وجه من وجوه سياسة اليد الممدودة. ولذلك، ارتأينا أن نسلك مقاربة في قراءة مضامين الخطاب الملكي ما بين المعلن عنها والمسكوت عنها.
1 ـ الرسائل المعلن عنها:
من أول كلمة في الخطاب الملكي، قطع جلالته الشك باليقين ليوضح من البداية وبدون تردد أنه قد جاء ليخاطب نواب الأمة في القضايا التي تهم شعبه وهي قضايا آنية واستعجالية تتجاوز كل الاعتبارات. وقد حصرها جلالته أولا في آفة الجفاف وندرة المياه، وثانيا في مسألة الاستثمار . وقد دعا ملك البلاد من قبة البرلمان الجميع إلى التعبئة الشاملة لرفع التحدي ومواجهة هذه المعضلات. فهي إرادة ملكية واضحة تمام الوضوح تقول لنا ولغيرنا أن الشأن الداخلي هو من ضمن الأولويات في اهتمامات ملك بشعبه. وأن الثروة المائية والاستثمار باعتبارها قضايا ملحة وذات بعد استراتيجي سواء على صعيد البنية الاقتصادية وهيكلتها أو على الصعيد الاجتماعي من خلال إيجاد فرص للشغل في أفق عام 2026 حيث تشير التقديرات إلى إحداث 500ىألف منصب شغل.
رسالة المغرب في هذه المناسبة وهي أن قضاياه الداخلية لها مكانتها في سلم الأولويات ولا تقل أهمية عن القضايا الخارجية، وأنه من أجلها يعمل بحسب قدراته على النهوض باقتصاده الوطني ويوظف ما له من إمكانيات رغم محدوديتها توظيفا أمثل لبناء اقتصاد متنوع يؤهله ليكون النموذج الأمثل مسجلا وضعامميزا يشهد عنه حضوره الفاعل والوازن في إفريقيا. بينما على النقيض من ذلك تجد بعض الأنظمة من أصحاب الجدبة والحضرة غارقة في متاهات السياسة فاقدين للرشد والوعي. ومن شدة ما غشاهم الكيد يبدرون ثروات البلاد في شراء الذمم وفي الاستقطاب المجاني نكاية في مغرب لا يلتفت إليهم كما لا يحركون فيه ساكنا. وكأن قدر تلك الشعوب التي أغدق عليها الله من الخيرات ما لا يحصى أن تعيش في الفقر المدقع وفي الحرمان الذي تقف من ورائه أنظمة فاسدة.
2 ـ الرسائل غير المعلن عنها:
بالرغم من وجود مكائد ومخططات مدسوسة تدبر ضد المغرب بما في ذلك محاولة خلق محور معاد على مستوى المنطقة المغاربية بدءا ببعض المناوشات السياسية والابتزازات المحتشمة يراد بها في البداية جس النبض، بالرغم من كل ذلك يرد عليهم المغرب بمقولة الحجاج بن يوسف بأن “جانبي لا يغمز كتغمازالتين” وأنه عصي على أن ينالوا منه ويتعالى فوق الجميع ولا يسمح لنفسه كي بنزل منزلة لا تليق به في الرد على المناوئين. ويحرص المغرب على ألا يضيع الوقت من خلال خطب لاستعراض العضلات لأنه من عادته لا يريد أن يلعن المستقبل إيمانا أولا بمواقفه التي لا يشق لها غبار، وثانيا مادام أنه صاحب حق فهو في موقع أقوى للثبات على المبدإ لا لشيء سوى أن مناوئيهسياتونه إن آجلا أو عاجلا صاغرين بعد أن يتبين لهم الخيط الأبيض من الأسود.
فالمغرب ليس بلد الإعلانات ولا البيانات ولا الخطب، بلد يلتقي مع خصومه على الأرض بخيارات سلمية لا بخيارات حربية. وله في خطبه من الإشارات الدالة على من هو معني بها أن يلتقطها في حينه. ففي مجال المياه أو الاستثمار مثلا اللذان استأثرا باهتمام شديد في الخطاب الملكي كانت الرسالة قوية ومفادها أن المغرب يجب أن يكون لأبنائه وأن الخيارات الاقتصادية يجب أن تكون وطنية في أهدافها من خلال مراجعة جدرية في السياسة التي تدبر الحقل المائي والتي غالبا ما كان ريعها يذهب إلى صناديق شركات أجنبية ولربما على حساب مقاولات مغربية لها أهليتها ومصداقيتها. ولعل المغرب قد وجد من المناسب أن يعمل على إيقاف هذا النزيف.
صيت هذه الخيارات شاع في إفريقيا بعد أن أصبحالمغرب نموذجا موثوقا ويضرب به المثل في مقاولات وشركات ناجحة قادرة على أن تثبت ذاتها في مجال المنافسة على صعيد القارة. ولأن الحال قد تغير ليصبح على ما هو عليه وكان له تأثير في تغيير موازين القوى، فإن فرنسا نتيجة لذلك لم تعد راضية على هذا الإشعاع المغربي مما دفعها أن تتموقع من جديد لمحاصرة المغرب بالتواطؤ، ولا أقول التحالف، مع من يكيدون كيدا للمغرب من دول الجوار. ويرون في باريس فرصة لقضاء مآربهم الدنيئة في حق المغرب لكن غاب عن علمهم جميعا أن الغارق قد تمسك بالغريق. وأن التوافق على المنكر بسبب غاز في شدة البرد سرعان ما قد تبخره حرارة الصيف ليعود دفئ العلاقات إلى أصله.