آسفي : القدر هو المتهم الأول في انتظار ننائج تحقيق النيابة العامة

0

الكارح أبو سالم 

لم تعد الكوارث في المغرب أحداثاً استثنائية تُفاجئنا، بل صارت مواعيد دورية نعرف توقيتها تقريباً، ونحفظ خطابها الرسمي عن ظهر قلب. في كل مرة، يسقط الضحايا، وتُغرق الأحياء، وتنهار المباني، ثم يُستدعى “القدر” ليقف في الواجهة، كأنه الفاعل الوحيد، وكأن السياسة كانت غائبة عن المشهد منذ البداية.

في آسفي، لم تكن المدينة في مواجهة إعصار مدمر، ولا تساقطات قياسية غير مسبوقة. سبعة وعشرون ميليمتراً فقط من المطر كانت كافية لتحويل أحياء وأسواق تاريخية إلى مجارٍ جارفة، وحصد سبعة وثلاثين روحاً. رقم ثقيل، لا يمكن اختزاله في ظرف مناخي عابر، ولا في توصيف تقني بارد. ومع ذلك، كان أول تفسير رسمي للفاجعة هو أنها “قدر” ناتج عن تساقطات قوية في وقت وجيز، هنا يبدأ الخلل. فالقضاء والقدر عقيدة، نعم، لكن تحويله إلى خطاب حكومي لتفسير المآسي يطرح سؤالاً سياسياً وأخلاقياً: متى تنتهي حدود القدر، وتبدأ حدود المسؤولية؟ وهل يعقل أن يكون المطر قدراً، بينما هشاشة البنيات التحتية ليست سوى تفصيل ثانوي خارج المحاسبة؟

الكوارث الطبيعية، في منطق الدول الحديثة، لا تُقاس بكمية الأمطار ولا بدرجة الهزات، بل بمدى جاهزية المدن، وبقدرة السياسات العمومية على امتصاص الصدمة وتقليص الخسائر. الزلزال قضاء وقدر، لكن أن تنهار منازل بأكملها فوق ساكنيها لأن مواد البناء رديئة، ولأن المراقبة غائبة، ولأن الفقر دُفع إلى الهامش، فذلك ليس قدراً.

الفيضان نعم قضاء وقدر، لكن أن تُرخص المباني بمحاذاة الوديان، وأن يُغض الطرف عن البناء العشوائي، وأن تتحول مجاري المياه إلى فضاءات تجارية وسكنية، فذلك اختيار بشري صرف.، في آسفي، واد الشعبة لم يولد فجأة،وخطره كان معروفا ، ومجاله الفيضي موثق، ومع ذلك تمدد عليه العمران ، واتسعت فوقه الأسواق، وتراكمت الأنشطة بمحاذاته، في صمت إداري مريب. السؤال الحقيقي ليس هو لماذا فاض الواد، بل لماذا تُركت المدينة مكشوفة أمام خطر معلوم؟ ومن منح التراخيص؟ ومن سكت؟ ومن اعتبر أن الكارثة لن تقع إلا في نشرات الأخبار، أو في مدن أخرى؟ وبالضبط بالمدن العتيقة وليس داخل الأحياء الراقية والفيلات الفخمة ؟

ما حدث في آسفي ليس معزولاً عن انهيارات المباني في فاس، ولا عن فواجع الحرائق في معامل غير مرخصة، ولا عن زلزال الحوز الذي كشف بؤس الهامش، ولا عن فيضانات تتكرر في مدن مختلفة كل شتاء، إنها السلسلة نفسها، والسياسات نفسها، والنتيجة نفسها: مغرب هش في مواجهة الطبيعة، ومغرب نافع محمي، وآخر يُزار فقط في موسم الانتخابات أو عند التقاط الصور. الاجتماعات الطارئة، والتعبئة الشاملة، وبلاغات التنسيق واليقظة، كلها مشاهد مألوفة بعد كل فاجعة. لكنها، في عمقها، اعتراف غير معلن بالفشل في ما هو أهم هو الوقاية،و الحكومة التي لا تستثمر بجدية في التخطيط الحضري، ولا تحمي هوامش المدن، ولا تفرض القانون على البناء، ولا توزع التنمية بعدالة، هي حكومة تراهن، من حيث لا تدري، على حسن الحظ.

اما ان نصنف هذه المدن المتضررة كمنطقة منكوبة لفتح باب التعويض والإعانات ، لكن باب المحاسبة لا يفتح ويبقى مسدودا إلى إشعار آخر ،خصوصا ان النسيان سينسين ما كان ، كما ان جبر الخواطر، لا يُصلح الخلل. والمفارقة أن الجدية التي تُرافق مساطر التعويض لا نجدها حين يتعلق الأمر بمنع الكارثة قبل وقوعها.

القدر ليس أن يموت سبعة وثلاثون شخصاً ( حسب الاحصائيات الرسمية لحد كتابة هذه الأسطر) تحت سيول كان يمكن احتواؤها. والقدر ليس أن تسقط بيوت لأن أصحابها فقراء، أو لأنهم بنوا حيث سُمح لهم أن يبنوا. والقدر ليس أن تبقى هوامش المدن خارج التنمية، رغم الميزانيات الضخمة والشعارات الرنانة. القدر، حين يُستعمل هكذا، يتحول إلى ستار لغوي أنيق لانسحاب السياسة من مسؤولياتها….وما لم يُكسر هذا المنطق، ستبقى الفواجع تتنقل من مدينة إلى أخرى، ومع كل مطر “غير متوقع”، سنعدّ الضحايا، ونستدعي القدر، ونؤجل السؤال الحقيقي إلى إشعار آخر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.