الگارح بوسالم- Cap24-
لم تعد وسائل الإعلام اليوم تعيش في جزيرة معزولة. الأحداث تتسارع، والعالم يتغيّر في كل لحظة، ومعها تتغيّر عادات الناس في استهلاك المعلومة. ولعلّ ما شهده المغرب مؤخراً من تفاعل شعبي واسع مع إقرار الأمم المتحدة مقترح الحكم الذاتي كحل نهائي لقضية الصحراء المغربية، كشف بشكل واضح هذا التحوّل الكبير في طريقة متابعة الأخبار. فالأغلبية الساحقة من المغاربة لم تتوجه إلى القنوات الوطنية لمتابعة التطورات، بل إلى هواتفها الذكية، إلى تطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت المصدر الأول للخبر والمعلومة والتفاعل ، وبإطلالة طفيفة على ما تتحصل عليه المواقع والحسابات التواصلية قد تجد الفرق شاسع واليوم واسع .
ولم يعد غريباً أن نسأل أنفسنا اليوم: من منا ما يزال يجلس مساءً لمتابعة القنوات الوطنية؟ الجواب – في الغالب – “نادر جداً”.،بل إن أجهزة التلفاز في أغلب البيوت أصبحت أشبه بقطع ديكور تزيّن الجدران أكثر مما تُستخدم فعلاً، وإن اشتغلت، فلكي تبث عبرها فيديوهات “اليوتيوب” أو “تيك توك”، وليس برامج القناة الأولى أو الثانية.
هذا الواقع والصراحة الواضحة ، لا يعبّر فقط عن تغيّر في الذوق أو في الاهتمام، بل عن تحول عميق في البنية الإعلامية نفسها. فالعصر الرقمي لم يترك خياراً لأي وسيلة إعلامية سوى أن تُجدد نفسها أو تندثر.
قنواتنا بين الماضي والمستقبل
القنوات الوطنية، سواء الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة (SNRT) أو صورياد-دوزيم، ما زالت تعمل بمنطق البث التقليدي: جدول يومي، توقيت محدد، فواصل، نشرات، برامج مسجلة… في وقت أصبح فيه المشاهد يقرر بنفسه متى وأين وكيف يشاهد،خصوصا وان العالم تغيّر:
القنوات العربية الكبرى طورت منصّات رقمية قوية، تُبث على الهواتف والأجهزة المحمولة، وتتيح المشاهدة عند الطلب.
المحتوى لم يعد يُستهلك في الساعة الثامنة مساءً، بل على مدار اليوم، وفي أي مكان.
التفاعل أصبح جزءاً من التجربة الإعلامية، وليس مجرد رد فعل متأخر.
وفي المقابل، قنواتنا الوطنية لا تزال تُخاطب الجمهور بمنطق “المتفرّج الصامت” الذي ينتظر أن يُقدَّم له الخبر أو البرنامج في وقت محدد، دون تفاعل أو مشاركة.
حين يسبق المجتمعُ إعلامَه
المجتمع المغربي أثبت أنه منفتح على العالم الرقمي. نسب استعمال الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي تجاوزت 80%، ومعدلات التفاعل مع المحتوى الوطني على “يوتيوب” أو “فيسبوك” أو “تيك توك” تفوق بكثير نسب المشاهدة على التلفزيون. هذا يعني أن المواطن لم يهجر المعلومة، بل هجر الوسيلة. لأنه لم يجد فيها تطوراً يوازي انتظاراته.
القنوات الوطنية، بحكم كونها مؤسسات عمومية، مطالَبة اليوم بأكثر من مجرد “تجديد في الشكل”، بل بتحول جذري في فلسفة الإنتاج والبث والتفاعل. يجب أن تنتقل من “قناة تبث” إلى “منصة تتفاعل”، من “مُنتِج محتوى” إلى “مُيسّر للنقاش العام”.
منطق التلفزيون لم يعد صالحاً
لم يعد التلفزيون، كما عرفناه قبل عقدين، هو سيد المشهد. اليوم، المشهد متشظٍّ، متصل، متفاعل، متغيّر بسرعة الضوء.وما لم تدرك قنواتنا الوطنية أن البقاء في الهامش الرقمي هو نوع من الانتحار البطيء، فإنها ستفقد تدريجياً ما تبقى من جمهورها.
التحول الرقمي ليس خياراً تقنياً فقط، بل ضرورة وجودية. لأن منطق “نحن نبثّ وأنتم تشاهدون” انتهى. واليوم هو زمن “نحن نشارك وأنتم تصنعون المحتوى معنا”.
وما يحدث اليوم ليس مجرد “أزمة محتوى” بل “تحوّل حضاري في التواصل”. ومن ثمّ، فإن التلفزيون الوطني كما هو عليه الآن، بمنطقه الخطي الكلاسيكي القديم، لم يعد قادراً على مواكبة نبض الناس، ولا على مجاراة سرعة المعلومة، ولا على حفظ موقعه في الوعي الجماعي، بل ولا تقبل الانتقاد البناء .
ولكي يبقى التلفزيون الوطني فاعلاً ومؤثراً، عليه أن يتصالح مع التحول الرقمي، وأن يمد جسوراً نحو الهواتف الذكية، والمنصات الاجتماعية، وأن يجعل من نفسه شريكاً في الحياة اليومية الرقمية للمواطن، لا مجرد ديكورٍ صامت في غرفة الجلوس، وأن يتواضع للإنصات للنقد والنصيحة ونبض الشارع المغربي .
