كاب24- عبد اللطيف الحافضي
في قلب حي الصياغين بالمدينة العتيقة لشفشاون، حيث يمتزج عبق التاريخ بسحر الألوان الزرقاء وخرير مياه مجرى رأس الماء السياحي، يتواجد فران “ريف الصبانين” كرمز للتراث الطهي التقليدي. هذا الفرن التاريخي؛ الذي كان يؤدي وظائف رئيسية من بينها طهي الخبز والحلويات، يعكس خبرة كل الحرفيين الذين اشتغلوا بهذا الفرن التاريخي، معتمدا في ذلك على أساليب تقليدية في إنتاج منتجاته، إلا أن هذه التحفة التاريخية ومع مرور الأزمنة، أصبحت متهالكة وتنتظر التفاتة دعم الحفاظ عليها رغم التحديات الهندسية التي تواجهها.
فران ريف الصبانين .. تاريخ عريق محفور في جدرانه
كل من يقصد فران “ريف الصبانين”، فلابد له من أن يقف متأملا في واجهته الرئيسية، فبمجرد ما أن تسقط عين الزبون والزائر فيجد بأعلى الفتحة الرئيسية المقوسة للفرن، لوحة خاصة بأشغال الترميم التي شملته من الخارج، ضمن برنامج إعادة تأهيل الأفران بالمدينة، أما من جهة اليسار، فتوجد لوحة تاريخية توثق تاريخ بناء هذا الفرن؛ الذي تم بناءه على يد الأمير محمد ابن راشد خلال الفترة 947هـ- 969هـ (1540م – 1560م، ما يدل على أن هذه التحفة التاريخية، شكلت تجسيدا حقيقيا لفنون الطهي التقليدية إلى جانب الأفران التقليدية الموجودة بالمدينة.
يتميز فران ريف “الصبانين” باستخدام بساط حجرية تقليدية تعمل بالحطب، مما يضفي نكهة مميزة على الخبز والحلويات، هذا الفرن؛ الذي نجا عبر قرون من التغيرات التاريخية والجغرافية، لا زال يحافظ على طابعه التقليدي المغربي العريق، حيث تمتاز بواجهته الحجرية المتينة والهرمية، بالإضافة إلى أدوات تقليدية تستعمل في عملية الطهي.
أدوار رائدة بنكهة “الخبز والحلوى”
أبناء ساكنة حي الصياغين بالمدينة الزرقاء؛ الذي يعتبر من أقدم أحياء المدينة؛ استحضروا في تصريحات متفرقة لقناة كاب24 الإلكترونية، أهمية وأدوار فران “ريف الصبانين، مؤكدين “أن هذا المعلم “يعكس جوهر المدينة القديمة بما يحمله من تاريخ وحضارة، ويعتبر جزءا لا يتجزأ من نسيج المدينة الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، حيث يجذب سكان الحي والزوار من المغرب والخارج”. فران “ريف الصبانين” وفق تعبيرهم، “لعب أدوارا اجتماعية واقتصادية وثقافية، حيث لم يكن مجرد مكان لإعداد الخبز، بل كان مركزا اجتماعيا حيث يجتمع الناس يوميًا، يتبادلون الأحاديث والأخبار المحلية، ويروون القصص والحكايات سعيا إلى الحفاظ على الروابط الاجتماعية بين أجيال مختلفة من سكان الحي، حيث يمكن للأبناء والأحفاد أن يجدوا نفس الأجواء التي عاشها أجدادهم، مما أكسبه مكانة خاصة في قلوب ساكنة الجوهرة الزرقاء.”
ووفق تصريحات بعض الزوار الذين يقصدون فران “ريف الصبانين” كمكان مفضل لاقتناء الخبز الطازج وبعض الأشكال من الحلوى، فإنه لعب أيضا دورا اقتصاديا مهما في حياة سكان حي الصياغين، حيث يعتبر مصدرا حيويا لتوفير الخبز الطازج للعائلات المحلية والمطاعم الكبرى بالمدينة، هذا الفرن التقليدي لا يزال يحافظ على تقنيات تقليدية تستخدم فيه أدوات بسيطة وقديمة لإعداد الخبز والحلوى، مما يجعله مصدر جذب للزوار والسياح؛ الذين يرغبون في تذوق نكهات تقليدية تنتمي لعصور ماضية، فالفرن المذكور علاوة على ذلك، يضيف أحد أبناء الحي، “ليس مجرد مكان لإنتاج الخبز، بل هو رمز للثقافة والتراث المحلي، حيث يجسد التقاليد العريقة في الطهي ويعكس اهتمام المجتمع بالحفاظ على تراثهم ونقله من جيل لآخر، كما يمثل جزءًا من الجولات السياحية التي تقود الزوار عبر أزقة المدينة القديمة، حيث يُظهر الجانب العريق من حياة السكان المحليين”.
إرث تاريخي ينشد التجديد بترميم التقليد
محمد اليفراحي من مواليد 1964 أب لأربعة أبناء، يشتغل كعامل بالفرن، وهو واحد من الحرفيين الذين قضوا ما يزيد عن خمسين سنة في إعداد الخبز والحلوى، كما يعود له الفضل في إعادة فتح هذا الفرن، بعد إغلاقه لفترة ليست بالطويلة، لظروف اجتماعية واقتصادية، أكد في لقاء مع كاب24، على أهمية الحفاظ على هذا الفرن التقليدي؛ الذي عمره 500 سنة، “لم يعد مجرد مكان لطهي الخبز والحلويات، بل هو جزء من تراثنا الذي نعتز به.”
وأشار المتحدث ذاته إلى أن هذا الفرن رغم استفادته من هذه المبادرة، التي همت فقط ترميمه من الخارج، فإنه أضحى يعاني من الداخل، من بعض التآكل، حيث ظهرت عليه تشققات قد تشكل خطرا بين الفينة والأخرى على العمال الذين يشتغلون، مطالبا في نفس الوقت الجهات المسؤولة والمختصين في المجال الهندسي بزيارة هذا المحل التاريخي من أجل إيجاد إمكانية ترمميه وتجديده مع الإبقاء على طابعه التقليدي.”
وأضاف اليفراحي الذي لم تكاد الابتسامة تفارقه؛ التي تجمع بين البشاشة والجدية في العمل وهو في حديثه مع الجريدة: “نحن بحاجة إلى دعم من الجهات المعنية والمهتمين بالحفاظ على التراث من أجل إيجاد صيغة هندسية تقليدية مناسبة للحفاظ على طابعه التقليدي وتوفير معدات حديثة لإعداد العجين، لأن هذه المعدات ستساهم في تحسين جودة العجين والتسريع من وتيرة إعداد الخبز والحلوى، قصد الاستجابة لحاجيات ساكنة المدينة والتفاعل مع طلبات الزبناء وضمان استمرارية إنتاج هذه المادة الأساسية بشكل يضمن الحفاظ على الطهي العريق وضمان جودة منتجاتنا على أعلى مستوى التي أصبحت مشهورة بالمدينة بلذتها والتي تعرف إقبالا كبيرا من طرف كبريات المطاعم بالمدينة.”
ويبقى فران “ريف الصبانين” من أقدم الأفران التقليدية الموجودة بالمدينة، من بين المعالم الحية لمدينة شفشاون التي ما زال يحافظ على النمط التقليدي لطهي الخبز، حيث لم يقتصر دوره على الجانب المادي فقط، بل أضحى يشكل الحياة الاجتماعية والثقافية والسياحية لساكنة “حي الصياغين” خاصة وساكنة المدينة عامة، على أمل أن تجد التفاتة صريحة لصون ذاكرة شفشاون الحية.
يذكر أن المدينة العتيقة للجوهرة الزرقاء، التي كان بها حوالي 18 فرنا تلك التي تعمل بالحطب، ولم يبقى منها إلا 6 نشطة، أصبحت الوجهة المفضلة لساكنة المدينة وزوارها من المغاربة والأجانب؛ حيث يقصدون هذه الأفران التقليدية لتذوق خبزها الطازج، المطهو بالحطب، والحلوى والأطباق الشعبية، كـ”الطاجين” و”صينية السمك” وشَي الفلفل أو البطاطس، لكن بالرغم من الأدوار التي تلعبها الأفران التقليدية في الحياة اليومية لساكنة مدينة شفشاون، فإنها في حاجة إلى تأهيل يمكنها من ضمان استمرارية أنشطتها عبر تطويرها بشكل يليق بمكانتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.