تمغربيت
ما معنى أن تكون مغربيا ؟ الجواب على هذا السؤال يقودنا جميعا إلى شد الانتباه والوقوف على حقيقة محددات ومكونات ما يعرف بالشخصية المغربية من حيث جدورها وروافدها في بعدها التاريخي والآني وصونها في مواجهة آفة التفسخ بفعل تحديات ومخاطر المستقبل والتي هي عديدة.
وحينما ندعو اليوم إلى “تمغربيت” فهي بعيدة كل البعد من أن تكون مقاربة شوفينية بقدر ما يجب أن تكون منفتحة وعلى بينة من كل التداولات الفكرية والحضارية العابرة للحدود والتفاعل معها إيجابيا متى كان ذلك ضروريا ومتى كان ذلك لا يصطدم مع مقومات الشخصية المغربية. ونحن في هذه المقاربة ليس همنا أن نروج لنمط فكري متطرف يراد به إحداث قومية جديدة كما فعلت إيديولوجيات سابقة وكان مآلها الفشل.
فالهدف الأسمى من تمغربيت هو الحفاظ على نقاوة الشخصية المغربية وحمايتها من التيارات المتطرفة التي سبق لها أن أتت على جزء من هويتنا الوطنية وتكاد اليوم أن تعرضها للاندثار مع تزايد مخاطر ما يسمى بالعولمة. نحن أمام هجمة شرسة وخطيرة متعددة الأبعاد تريد اجتثاث موروثنا الثقافي والفكري الذي ترسخ على مدى ثلاثة وثلاثين قرنا.
الشخصية المغربية على عهد أسلافنا كانت جامعة وحاضنة لجملة من المبادئ والقيم الإنسانية والكونية. كان المبدأ فيها هو المتحكم في السلوك وفي العلاقات سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة. كثيرة هي القيم التي كانت تتميز بها تلك الشخصية التي نبحث عنها اليوم ولربما قد لا نجد لها أثرا. فالمغربي لم يكن يوما هو الشيء ونقيضه ولم يكن كذلك يبحث عن كيانه ليجده في نظرة الغريب إليه. كان مستقلا في ذاته ومومنا أشد الإيمان بقدراته ومعتزا أيما اعتزاز بنفسه . بل أكثر من ذلك وعلى مدى القرون التي خلت كانت الشخصية المغربية وازنة وفرضت نفسها بشكل واضح وجلي في علاقة سلاطين المغرب بحكام أوروبا في القرون الماضية أي ما قبل عهود الأندلس وإبانها وما بعدها. فالثقة في النفس وإيلاءالاعتبار إلى الذات كانت سر ذلك التميز المغربي الذي كان ينظر إليه كنموذج يحتذى به.
كانت الظاهرة المغربية هي السائدة والغالبة في مختلف مناحي الحياة العامة والخاصة. وكان للمرأة شأن وحضور وازن ومحترم إلى جانب الرجل بفضل التراكمات الإيجابية للتقاليد العريقة سواء في المجتمعات الأمازيغية أو في المجتمعات الإسلامية. وقد تبوأت المرأة مكانة بفعل شخصيتها القوية وبقدراتها في تدبير الشأن العام. وكان رأيها يعتد به في ظروف السلم كما في ظروف الحرب لتموقعها القيادي في سلطة القرار. ولم يكن وضعها هبة لا من الرجل ولا من السماء.بل استمدته من الواقع المعاش من البيت ومن الحقل وفي الأسواق الأسبوعية وفي مناسبات الأفراح والمآتم وتنامي دورها التصاعدي على مستوى الجماعة والقبيلة انتهاء بدور ريادي في سلطة القرار سواء في القلاع أو القصور. ، فالتاريخ المغربي حافل بنساء سجلن مغربيتهن في الكفاح والمقاومة وفي تدبير الشأن العام على أعلى المستويات بدءا من القرن السادس عشر وما قبله وصولا إلى القرن التاسع عشر. كما أن المجال لا يتسع للحديث عن الدور القيادي المرأة الأمازيغية وعن بسالتها وعن جرأتها التي لا يشق لها غبار.
وبعد تكالب القوى الاستعمارية لتسهيل دخول المستعمر الفرنسي مع بداية القرن العشرين، تعرض المغرب والمغاربة إلى غزو ثقافي وفكري أرادته فرنسا أن يكون وسيلة لطمس وتشويه الهوية المغربية باحتلال العقول قبل احتلال الأرض. النزعة الفردية التي جاء بها الاستعمار ضمن مفهوم الحرية أدت إلى انكسار في البنية الاجتماعية وهي القائمة أصلا على تماسك الجماعة أو القبيلة لتشمل مختلف الأنشطة لتلك الجماعة قاسمها المشترك التضامن في كل ما يخص حياة الأفراد سواء في ما يتعلق بالجانب الاجتماعي أو الاقتصادي كالزراعة والرعي والحرث الجماعي المعروف “بالتويزة“. فإلى عهد ليس ببعيد كان نمط العيش نموذجا لما كانت عليه “تمغربيت“. لكن بفعل ذلك التغلغل انكمش النموذج المغربي وتراجع بحجة أن الحداثة هي أولى من كل اعتبار. ونحن لسنا من حيث المبدإ مع إقفال الباب في وجه كل ما هو حداثي، لكن شرط ألا يحول ذلك دون التطور الطبيعي للمجتمع المغربي مع التأكيد على ضرورة الحفاظ على خصوصيات المجتمع.
وإذا كانت الحقبة الاستعمارية السبب في عدة أعطابنالت من بنية المجتمع المغربي فكرا وحياة معيشية من خلال طغيان النزعة الفردية وتثبيتها لدى فئات معينة من مجتمعنا، وهي تلك الفئات التي استغلتها أبشع استغلال لأغراضها ولأبنائها ولمن توارثوها، هذه الفئات التي فرخها الاستعمار، والتي كانت تنعت نفسها بالوطنيين، لم تكن راضية على بعض السياسات الرامية إلى إبراز الخصوصية المحلية في المجتمع المغربي من عادات وتقاليد وأعراف وذلك بالحث على الأخذ بتلك الأعراف المعمول بها في المجتمعات الأمازيغية. هؤلاء “الوطنيون” أقاموا الدنيا ولم يقعدوها وشنوا حملة مسعورة على الظهير الذي صدر عن الملك محمد الخامس، وهم الذين أطلقوا عليه اسم الظهير البربري في إشارة منهم على أنه ظهير يثير الفتنة والفوضى في البلاد .
هذا الواقع تم تكريسه مع بداية ستينيات القرن الماضيبالتطاول على المرجعيات الأصلية للهوية المغربية من خلال خيارات غير وطنية اتخذت من قطاع التعليم مطية للتشويه والتشويش. وظهرت مدرستان في التآمر على الهوية، الأولى وتمثل برجوازية الحواضر التي تماثلت قلبا وقالبا مع ثقافة المستعمر وورثت عنه الفكر والاقتصاد وقطاع الخدمات لقضاء مآربهم وفي نفس الوقت لخدمة المتربول. وكان من نتائج ذلك انشطار المغرب ما بين مغرب متمسك بالأصول والجدور وما بين مغرب متنكر لكل ذلك تحت مسميات الحداثة. المدرسة الثانية وهي على طرف النقيض لسابقتها أصحابها من حملة الفكر القومي والمستلبين فكريا وعقائديا بمفاهيم العروبة القائمة على التطرف والإقصاء من دون مراعاة خصوصية المجتمع المغربي الذي هو مجتمع متعدد وقائم على التعايش والاعتراف بالآخر في كل ما تحمله الشخصية المغربية من أوجه الاختلاف البناء وغير الصدامي.
وقد كان الراحل الملك الحسن الثاني على درجة كبيرة من الوعي والإدراك بخصوصيات الشخصية المغربية ومقوماتها. ولأنه كان على هذا الحال تصدى لكل التيارات القومية واليسارية المتطرفة إيمانا منه بأنها لا تصلح كسماد لتربة مغربية وهي تربة متنوعة. وعلى هذا الأساس كانت الخيارات الأولى التي تضمنها قانونالحريات العامة لعام 1958 وأكدها دستور 1962 ، قد جاءت في وقت مبكر لتؤكد على ضرورة إغلاق الباب في وجه الحزب الوحيد والاستعاضة عن ذلك بالتعددية.
وقد خاض المغفور له معارك ضارية على الواجهتين الداخلية والخارجية لكي يظل المغرب على مغربيته من دون أن تطاله التيارات الفكرية والعقائدية التي غالبا ما تكون متناقضة وقد تحمل معها من التداعيات الخطيرة والمهددة للكيان المغربي. وفي خطبه أكد غير ما مرة جلالته على حماية هذه الهوية وصونها. وكان حرصه شديدا حتى على مستوى لغة التخاطب وهو يفضل في ذلك أن يخلط الطفل المغربي بين الدارجة وتريفيتأوتمازيغت أو تشلحيت على أن يخلط في حديثه بين العربية والفرنسية أو الإسبانية. ويشدد على أن ذلك في غاية الأهمية بخصوص جعل الهوية أكثر مناعة. ومن جملة وصاياه أن دعا المغاربة إلى تعليم أبنائهم القرآن في “المسيد” على اعتبار أنه المدرسة الأولى في الهوية وفي الوطنية.
وفي العهد الجديد، كان جلالة الملك محمد السادس خير خلف لخير سلف. ومع تربعه على عرش المملكة أعطى دفعة قوية للمكون الأمازيغي في خطاب أجدير معلنا فيه تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بتاريخ 17 أكتوبر 2001.كما أبان جلالته عن حرص شديد بعد أن أعطى للهوية المغربية أبعادا حقيقية وذلك بالاعتراف الكامل بمكوناتها العرقية والدينية وجعلها محصنة في القانون الأسمى للمملكة بعد أن بوأها مكانة خاصة في ديباجة دستور 2011التي نصت بوضوح على أن “المملكة دولة إسلامية ذات سيادة كاملة متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية الموحدة بانصهار كل مكوناتها العربية الإسلاميةـ والأمازيغية والصحراوية الحسانية والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية “.
وبفضل عناية الملك الحسن الثاني والملك محمد السادس أصبحت الهوية المغربية مصونة من خلال دستورها ومؤسساتها وعلى رأسها المؤسسة الملكية وبجمعياتها التي يجب أن تنشط من خلال الإطارات القانونية المتاحة لكي تستكمل طريقها نحو التنزيل المطلوب. ومن المؤكد أن الرعاية الملكية أعطت للهوية حماية رسمية وطابعا إلزاميا وجعلها في منأى عن عبث الحركة السلفية الشرقية التي طالما تأثر بها أقطاب الحركة الوطنية في المغرب. كما أن هذه المبادرات الملكية قد قطعت الطريق على أصحاب الفكر الواحد الأوحد الذين لا يومنون بالتعدد والاختلاف ويومنون فقط بالإقصاء حيث لا مكان لفكر إقصائي في مغرب متعدد. وهو عنوان مقالنا السابق.