مدلول عبارة “حق التصويت حق شخصي وواجب وطني”

0

بقلم: د. يحي حلوي

أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية

جامعة محمد الأول بوجدة

ونحن مقبلين على استحقاقات 8 شتنبر 2021 حيث ستجرى انتخابات أعضاء مجلس النواب ومجالس الجماعات ومجالس الجهات، نستحضر مجموعة من المقتضيات الدستورية والتشريعية والتنظيمية المؤطرة لها، من بين هذه المقتضيات لا بأس الوقوف على البعض منها، فقد ورد الفصل 30/فق.2 من دستور المملكة لـلفاتح من يوليوز 2011: “ التصويت حق شخصي وواجب وطني ” (Le vote est un droit personnel et un devoir national)

وجاء في المادة 71/فق.1 من القانون التنظيمي رقم 11-27 المتعلق بمجلس النواب: التصويت حق شخصي وواجب وطني.”، كما جاء في المادة 11/فق. 1  من القانون رقم 11-59 المتعلق بانتخاب أعضاء الجماعات الترابية:” التصويت حق شخصي وواجب وطني.”، وهو نفس المقتضى الذي تم التنصيص عليه في نصوص تشريعية أخرى (مثلا المادة 71/فق.1 من القانون التنظيمي رقم 11-28 المتعلق بمجلس المستشارين).

فما المغزى الذي يمكن أن يستشف من هذه العبارة؟

 أي، متى يكون التصويت حقا شخصيا (أولا)؟ ومتى يصبح التصويت ذاته واجبا وطنيا (ثانيا)؟. 

أولا : التصويت حق شخصي 

على الرغم من أن دستور المملكة لـ 2011 قد مكن المشرع سلطة تنظيم حقوق وحريات الأفراد في مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية …إلخ، فقد جعل التصويت من الحقوق السياسية المنصوص عليها دستوريا (أ-)، بل اعتبره من الحقوق الأساسية وليس مجرد حق يضمنه الدستور (ب-).

أ–   التصويت حق دستوري وليس مجرد حق تشريعي 

هناك العديد من الحقوق التي يتمتع بها الأفراد والمواطنون ذات طبيعة تشريعية كحق الأجير أو الموظف في الأجر أو الراتب وحقهما في العطل وفي التقاعد (القانون رقم 99-65 المتعلق بمدونة الشغل/ الظهير الشريف رقم 008-58-1 المعتبر بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية).

غير أن التصويت لانتخاب أعضاء مجلس النواب وأعضاء كل من مجالس الجماعات ومجالس الجهات  كحق لم يتم منحه من قبل البرلمان للناخبين في المادة 71/فق.1 من القانون التنظيمي رقم 11-27 المتعلق بمجلس النواب والمادة 11/فق.1 من القانون التنظيمي رقم 11-59 المتعلق بانتخاب أعضاء الجماعات الترابية، إنما تم التنصيص عليه في دستور المملكة لـلفاتح من يوليوز 2011، وهكذا، فمن جهة، استهل الدستور بالتصدير الذي ركز على “المشاركة” باعتبارها من مرتكزات المملكة المغربية، وجعل في الفصل الأول “الديمقراطية المواطنة” أحد مقومات المملكة، ونص في الفصل 2 منه على أن:” السيادة للأمة، تمارسها مباشرة بالاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها. تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم.”، وهي مقتضيات لها ارتباط بالتصويت، ومن جهة ثانية، استهل دستور المملكة الفصل 30 بعبارة:” لكل مواطنة و مواطن، الحق في التصويت،”.

إن التصويت كحق لم يكن أبدا ممنوحا من قبل المشرع، إنما منصوص عليه في دستور المملكة، أما المشرع فلا يعمل إلا على ضبطه، شأنه شأن بعض الحقوق، دون “المساس بأصله أو جوهر وجوده(قرارا المحكمة الدستورية رقم 21-133م.د. و21-134م.د. الصادران في 24 غشت 2021).

بالتصويت من الحقوق الأساسية المنصوص عليها في الدستور وليس مجرد حق يضمنه الدستور

دستور المملكة لـ 2011 تضمن العديد من الحقوق الدستورية، فارتقى بالبعض منها إلى مصاف “الأساسية”، واكتفى بوصف البعض الآخر منها بوصفها “يضمنها الدستور”، ففي الوقت الذي اعتبر على سبيل المثال كل ما ورد في الباب الثاني من الدستور من “الحريات والحقوق الأساسية” (الفصول من 19 إلى 40)صرح في الفصل 133 منه  على اختصاص المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون بمناسبة دفع أحد الأطراف بأن القانون المراد تطبيقه عليه في النزاع “يمس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور.”.

ومنه يمكن أن نستشف أن داخل الحريات والحقوق المنصوص عليها في دستور المملكة هناك الحريات والحقوق الدستورية من الدرجة الأولى وهي التي نعتها دستور المملكة بالأساسية، وهناك الحريات والحقوق الدستورية من الدرجة الثانية وهي التي اكتفى دستور المملكة بنعتها “يضمنها الدستور”. ويندرج الفصل 30 من دستور المملكة الذي نص على أن:” لكل مواطنة ومواطن، الحق في التصويت، … حق التصويت حق شخصي….”، ضمن الحقوق الدستورية من الدرجة الأولى.

ويتميز الحق في التصويت على غرار باقي الحقوق من الدرجة الأولى عن كل الحقوق التي يضمنها الدستور بعدة مميزات، منها:

  • أنها غير قابلة للمراجعة، فقد جاء في الفصل 175 من دستور المملكة:” لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة …بالمكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور.”، ومنه يفهم أن الحقوق التي يضمنها الدستور (من الدرجة الثانية) قابلة للمراجعة؛
  • أن الملك إذا أعلن عن حالة الاستثناء فلا يمكنه المساس بها، فقد جاء في الفصل 59/فق.1-3 من دستور المملكة:إذا كانت حوزة التراب الوطني مهددة، أو وقع من الأحداث ما يعرقل السير العادي للمؤسسات الدستورية، أمكن للملك أن يُعلن حالة الاستثناء بظهير، … تبقى الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور مضمونة“، هذا الفصل يعطي للملك عند الإعلان عن حالة الاستثناء صلاحية اتخاذ الإجراءات التي يفرضها الدفاع عن الوحدة الترابية، ويقتضيها الرجوع، في أقرب الآجال، إلى السير العادي للمؤسسات الدستورية دون المساس بالحقوق والحريات الأساسية التي يضمنها الدستور. إن القول ببقاء الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور مضمونة“، معناه أن “حق التصويت حق شخصي” الذي يدرج ضمن الحقوق الأساسية لا يمكن للملك المس فيه، وذلك على عكس الحقوق الدستورية الأخرى التي يسمح له الفصل 59 بتنظيمها.

ثانيا: التصويت واجب وطني

إذا كانت لكل قاعدة قانونية جزاء، فيفترض في القاعدة الإلزامية أو الوجوبية فرض جزاء مخالفتها، الأمر الذي يحتم البحث في جزاء عدم التصويت (أ-) مع الوقوف على سر ربط دستور المملكة لـ 2011 عبارة الوجوب بـعبارة “الوطني” (ب-). 

أ–   الواجب والالتزام في القاعدة القانونية تقترن بالجزاء 

عرفت الأستاذة Maryonne HECQUARD-THEROND الجزاء بأنه “النتيجة التي تنتج عن تنفيذ أو عدم تنفيذ التصرف الانفرادي” (Maryonne HECQUARD-THEROND, Essai sur la notion de réglementation Paris, LGDJ, 1977, p. 43.)، هذا التعريف يفيد أن للجزاء في التصرف القانوني مفهومين: المفهوم الأول إيجابي، ويتجلى في تطابق عنصر التنفيذ بعنصر التصرف القانوني، كالتحاق المعلن عن تفوقه في مباراة ما بوظيفته، أو أداء مستحقات ضريبة ما عن طواعية من قبل المساهم le contribuable ، أو لجوء الناخب يوم الاقتراع إلى صناديق الاقتراع والإدلاء بصوته. أما المفهوم الثاني فيبقى سلبي، ويتجلى في عدم تطابق عنصر التنفيذ بعنصر التصرف القانوني، كعدم التحاق المتفوق في مباراة ما بوظيفته فيعد متخليا عن المنصب، أو امتناع الملزم le redevable عن أداء ضريبة مستحقة بلغت إليه في شكل قرار الإعذار، أو عدم لجوء الناخب يوم الاقتراع إلى صناديق الاقتراع قصد الإدلاء بصوته..

وعلى الرغم من أن بعض الدول لا تفرض أي جزاء على الامتناع عن التصويت فإن البعض منها تفرض عقوبات، منها التي تعتبرها مجرد مخالفات إدارية تحتم فرض عقوبات إدارية، ومنها التي تعتبرها جرائم من صنف مخالفات تستحق متابعات قضائية.

وتعد بلجيكا من الدول التي تأخذ بالعقوبات الإدارية، فإذا كان الفصل 62 الدستور البلجيكي لسنة 1994 قد نص على أن :”التصويت إلزامي وسري“، فقد فرضت بعض قوانينها على الناخب الممتنع عن الإدلاء بصوته غرامة تتراوح قيمتها بين أربعين (40) وثمانين (80) أورو(عملة)، وتصل الغرامة إلى مائتي (200) أورو (عملة) في حالة العود. وإذا تمادى الناخب ولم يدل بصوته خلال أربع (4) استحقاقات داخل خمسة عشر (15) سنة يجرد من لائحة الناخبين لمدة عشر (10) سنوات، علاوة على منعه من تقلد عدد من المناصب العمومية.

ويمكن القول أن فرنسا تعد من بين الدول التي تأخذ بالمتابعات القضائية بالنسبة لبعض الناخبين، فقد جاء في المادة L318 من مدونة الانتخابات على أن كل عضو في المجمع الانتخابي لم يشارك في الاقتراع يحكم عليه بغرامة مائة (100) أورو (عملة) من قبل إحدى المحاكم الابتدائية المختصة وذلك بناء على طلب من النيابة العامة (Loi n°2004-404 du 10 mai 2004 – art. 11 JORF 11 mai 2004).

والذي يبدو أنه على عكس عدد من فصول دستور المملكة لـ 2011 التي ربطت وجوب الخضوع لمقتضياتها بجزاء ( كالفصل 61 منه)، لم يتم ربط وجوب التصويت بأي جزاء، كما أن المشرع المغربي  وإن نص في كل من المادة 71/فق.1 من قانون التنظيمي رقم 11-27 المتعلق بمجلس النواب والمادة 11/فق. 1  من القانون رقم 11-59 المتعلق بانتخاب أعضاء الجماعات الترابية على وجوب التصويت فلم يقرنه بأي جزاء، سواء أكان إداريا أو قضائيا.

وإذا سبق للمجلس الدستوري المغربي أن اعتبر في أكثر من مناسبة النص التشريعي المعروض عليه قاصرا (عيب اختصاص سلبي) واصفا المشرع في مثل هذه الحالات بأنه “… لم يمارس كل ما يخوله اختصاصه” (مثلا قرار رقم 2000-382 بتاريخ 15 مارس 2000/ سمته المحكمة الدستورية لاحقا بـ”الإغفال التشريعي” قرار رقم 18-70م.د. بتاريخ 6 مارس 2018- قرار رقم 19-89م.د. بتاريخ 8 فبراير 2019فالأكيد أن هناك سر عدم إثارته انتباه المشرع لهذه المسألة أثناء نظره في دستورية كل من المادة 71/فق.1 من القانون التنظيمي رقم 11-27 المتعلق بمجلس النواب (قرار رقم 11-817 بتاريخ 13 أكتوبر 2011) والمادة 11/فق. 1  من القانون رقم 11-59 المتعلق بانتخاب أعضاء الجماعات الترابية (قرار رقم 11-821 بتاريخ 19 نونبر 2011).

ب–         دلالة وطنية الواجب

إذا كان المجلس الدستوري (في قراريه رقم 11-817 و11-821 المشار إليهما) لم يثر انتباه المشرع من عدم فرض جزاء عدم التصويت، فلأن الوجوب اقترن بعبارة “وطني“، ودستور المملكة مليئ بمثل هذه العبارة، فمن جهة استعمل عبارتي “المواطنة“(citoyenne) و”المواطن“، ومن جهة ثانية، استعمل عبارات من قبيل “الوطني“، الوطنالوطنية” “المواطنة” (citoyenneté).

يتمتع المكتسب لإحدى صفتي “المواطنة“(citoyenne) أو “المواطن” الواردتين في مختلف مقتضيات دستور المملكة بكل الحقوق التي يتمتع بها باقي أفراد المجتمع بما فيها الأجانب المتواجدين بتراب المملكة، كالحق في الحياة (الفصل 20) والحق في سلامة الأشخاص والأقرباء (الفصل 21). وبالموازاة مع ذلك، يتميزان/ يتمتعان عن باقي أفراد المجتمع بممارستهما لعدد من الحقوق بما فيها الحقوق السياسية، كالحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع (الفصل 14) والحق في تقديم عرائض (الفصل 15) والحق في التصويت (الفصل 30).

وعبارة “الوطن” (La patrie) لها مدلول خاص بها، فقد فسرها الفيلسوف فولتير  بأنها:” مكون من عدة عائلات؛ ولأننا ندعم عائلتنا عمومًا من منطلق احترام الذات، عندما لا تكون لدينا مصلحة معاكسة، فإننا ندعم نفس تقدير الذات لبلدتنا أو قريتنا، التي نسميها وطننا” ( Dictionnaire philosophique, éd. 2012 d’Alain Pons folio classique, p. 418) وإذا تركنا هذا التفسير جانبا وبحثنا في دلالات مصطلح “الوطن” و”الوطني” و”الوطنية” في دستور المملكة، لوجدنا أن “الوطن” من مكونات شعار المملكة المنصوص عليه في الفصل 4 منه، وأن:” المملكة المغربية … ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية ” (التصدير/فق.2)، وعدم جواز تأسيس الأحزاب السياسية التي تمس في “الوحدة الوطنية” (الفصل 7)، وأن الحق في المعلومة إن كان من الحقوق الأساسية، فيظل لزاما تقييده كلما تعلق بعدد من القضايا في مقدمتها” الدفاع الوطني، وحماية أمن الدولة الداخلي والخارجي ” (الفصل 27)، وأن المواطنات والمواطنين يساهمون في:” في الدفاع عن الوطن ووحدته الترابية تجاه أي عدوان أو تهديد”. إن التعمق في كل هذه المقتضيات تفيد بما لا يدع مجالا للشك أن المواطنة أو المواطن تجده يدافع باستماتة عن كل شكل من أشكال المس بوطنه الذي ينتمي إليه، فينصهر بذلك الواجب المنصوص عليه في الفصل 30/ فق.2 من دستور المملكة في فلك كل الفصول الواردة في الباب الثاني (الفصول من 19 إلى 40) ويصبح أحد أهم “الحريات والحقوق الأساسية”، بل إن الحق حينما يلتصق بالـ”وطني” سيختبئ في وجدان المواطنة والمواطن، وهي حقيقة لا يمكن اختبار من أنكرها إلا بالاستماع إلى النشيد الوطني (المنظم بالظهير الشريف رقم 1.05.99 الصادر في 20 من شوال 1426 (23 نوفمبر 2005) المتعلق بخصوصيات علم المملكة وبالنشيد الوطني، ج.ر. عدد 5378 بتاريخ 15 دجنبر 2005).

خلاصة 

من كل ما سبق، يمكن القول إن التصويت بكل حرية حق للمواطنات والمواطنين على الدولة واجب تأمين وتيسير ممارسته بكيفية مطردة وسليمة ، وعدم المساس بأصله وجوهر وجوده، وهو واجب وطني وأخلاقي شأنه شأن الدفاع عن الوطن وحمايته يبقى في وجدان المواطنات والمواطنين، كما يجسد مشاركة المواطنات والمواطنين في الحياة العامة والسياسية وتدبير الشأن العام الوطني والترابي.

 إن التصويت يساهم في مواصلة وترسيخ “إقامة مؤسسات الدولة الديمقراطية الحديثة”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.