هذا ما كان ف الكان: حين تتحوّل كرة القدم إلى أداة استدراج رقمي – الحلقة 29/10

0

الگارح ابو سالم

منذ انطلاق كأس إفريقيا للأمم على أرض بلادنا، بدا المشهد في صورته الأولى احتفالًا رياضيًا خالصًا: ملاعب ممتلئة، شغف جماهيري جارِف، وأجواء جامعة تختصر معنى الانتماء والفرح.
لكن بالموازاة مع المباريات، نشطت منظومة رقمية، قوامها مواقع ومنصّات تدعو إلى “توقّع النتيجة” و“الربح مقابل الاختيار الصحيح”، مستثمرة حرارة الحدث، وحساسية اللحظة، وشغف الجماهير الذي يكون في أقصاه خلال التظاهرات الكبرى. في الظاهر، يبدو الأمر بسيطًا وبريئًا، باعتبار لعبة التوقع، تعتمد على التصويت، والمشاركة التفاعلية لا أكثر. لكن التمعّن في الخطاب المستعمل يكشف بما لا يدع مجالا للشك ، أن المسألة تتجاوز التسلية، وتدخل مجال الاستدراج الناعم والاستلاب الممنهج .
في هذه المنصّات، لا تُقدَّم المراهنة باعتبارها مخاطرة، بل كتحليل ذكي، وكقدرة خاصة على قراءة المباراة قبل وقوعها. يُغذّى المتابع بإيحاءات امتلاك “المعلومة الحاسمة”، وبأرقام وانتقاءات توحي بأن النتيجة يمكن التحكم فيها أو استباقها، وكأن كرة القدم معادلة حسابية محكومة لا لعبة مفتوحة على المفاجآت. هكذا يتحوّل التوقّع من رأي رياضي عابر إلى عادة ذهنية، ثم إلى قناعة زائفة، وهو المدخل النفسي نفسه الذي بُنيت عليه صناعة المراهنات عالميًا.
لا يُدفع الناس إلى الرهان دفعة واحدة، بل يُستدرجون خطوة بعد خطوة. تجربة أولى بدافع الفضول، ثم ثانية بدافع التعويض، ثم تتكرّس الفكرة بأن الربح مسألة وقت فقط. وحين يظن المتابع أنه اقترب من الفوز، يُفاجأ بأن “الحظ لم يحالفه” لأن كثيرين توقّعوا مثله، فيُطلب منه إعادة المحاولة، مرة بعد مرة، إلى أن يصبح أسير دائرة مغلقة، مسكونًا بوهم أن الاختيار سيقع عليه في المرة القادمة.
لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن اقتصاد “النقرات” والترند. فكل بطولة كبرى، سواء كأس إفريقيا أو كأس العالم أو غيرهما، تتحوّل إلى منجم رقمي لجذب التفاعل، وجمع المعطيات، ورفع نسب الزيارات. المستخدم هنا لا يُنظر إليه كمشجّع واعٍ، بل كرقم داخل خوارزمية، أو كهدف محتمل لجرّه نحو خدمات أخرى أكثر خطورة، تحت الغطاء نفسه.

الأخطر أن هذه المنصّات تشتغل في منطقة رمادية،لا هي مراهنة صريحة تخضع للمساءلة القانونية، ولا هي تحليل رياضي نزيه يخضع لأخلاقيات المهنة. هذا الغموض هو ما يسمح لها بالانتشار دون تحذير أو تأطير، ودون تنبيه حقيقي إلى المآلات المحتملة، خصوصًا لدى فئات شابة لا تمتلك دائمًا أدوات النقد والتمييز. وفي المقابل، يغيب في كثير من الأحيان دور الإعلام في التفكيك والتنبيه، ليُقدَّم هذا كله تحت عنوان فضفاض هو “التفاعل الجماهيري”.
على المستوى العالمي، لم يعد الرهان مجرّد متابعة للنتائج، بل أصبح صناعة ضخمة تتقاطع فيها الأموال والإشهار، وتُثار حولها، بين الفينة والأخرى، شبهات توجيه وتأثير في طبيعة النتائج المتوقعة. ففي مثل هذه المنظومات، لا يُكتفى بملاحقة النتيجة، بل يُسعى أحيانًا إلى توجيه التوقعات، وتضخيم سيناريوهات بعينها، وخلق وهم السيطرة، بينما يبقى التحكم الحقيقي بعيدًا عن المتابع البسيط. هنا، يصبح الأمر أقرب إلى نصب مقنّن، رابحه معروف سلفًا، وخاسره في الغالب هو من صدّق أن معرفته الكروية وحدها كافية لمواجهة آلة مالية عابرة للحدود.
في المغرب، تلاقت هذه الممارسات مع واقع اجتماعي هشّ، حيث يغري وهم الربح السريع كثيرين. من سباق الخيل، إلى “الطوكار”، إلى رهانات الكلاب، وصولًا إلى المراهنات الرياضية الرقمية، تغيّرت الأشكال وبقي الجوهر واحدًا: بيع الأمل مقابل الاستلاب. وكم من أسرة دفعت ثمن هذا الوهم، حين تحوّل الرهان من تجربة عابرة إلى مسار يخلخل الاستقرار، ويستنزف المال، ويُربك العلاقات داخل البيت الواحد.
اليوم، ومع الهاتف الذكي، صار هذا الاستنزاف أسهل وأقرب وأقل وضوحًا. لم يعد يحتاج إلى فضاءات معروفة أو وسطاء ظاهرين، بل إلى لحظة حماس، وإلى حدث كبير مثل كأس إفريقيا. وهنا تكمن المفارقة المؤلمة: تظاهرة رياضية يُفترض أن تعزّز القيم الجماعية، تتحوّل عند البعض إلى مدخل للقلق والعزلة وانتظار مرهق لنتيجة لم تعد تعني الفوز أو الخسارة الرياضية، بل دراهم تُحلم بالربح دون مجهود.
إن أخطر ما في هذه الظاهرة ليس وجودها في حد ذاته، بل تطبيعها، وتقديمها كجزء طبيعي من المشهد الرياضي الحديث، مع التغاضي عن كونها، في كثير من الحالات، آلية استغلال، بل وآلية توجيه. فحين تختلط الرياضة بالمال غير المنضبط، تصبح النزاهة أول الضحايا، ويغدو المشجّع الحلقة الأضعف في سلسلة محكمة الإغلاق.
كأس إفريقيا المقامة ببلادنا مناسبة للاحتفال، نعم، لكنها أيضًا لحظة صادقة لطرح السؤال الحقيقي: أي كرة قدم نريد؟ كرة قدم تُفرح وتُوحّد، أم كرة قدم تُستعمل كواجهة لاستدراج رقمي ناعم؟ بين الخيارين، يبقى الوعي وحده القادر على كسر هذه الحلقة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.