هذا ما كان ف الكان من الإنسانية إلى الانسيابية: الأمن المغربي في قلب الحدث – الحلقة 29/06
الكارح أبو سالم
في التظاهرات الرياضية الكبرى، لا يُقاس النجاح فقط بما تلتقطه عدسات الكاميرات داخل المستطيل الأخضر، بل بما يظل خارجها: في الطرقات، في محيط الملاعب، في حركة الجماهير، وفي ذلك الإحساس الخفي بالطمأنينة الذي يجعل الحدث يمرّ كما لو أنه أمر عادي. هكذا بالضبط انطلقت كأس إفريقيا للأمم 2025 بالمغرب، حيث بدا السير العادي للمباريات نتيجة عمل أمني عميق، صامت، وإنساني في آن واحد.
خلال اليومن الماضيين، أعاد مقطع فيديو متداول على مواقع التواصل الاجتماعي تسليط الضوء على هذه الحقيقة. الفيديو وثّق لحظة مؤثرة لمشجعة جزائرية من ذوي الاحتياجات الخاصة، تستعمل كرسياً متحركاً، أثناء محاولتها ولوج أحد الملاعب لمتابعة مباراة في إطار البطولة. مشهد بسيط في ظاهره، لكنه كان كاشفاً لجوهر التنظيم.

فبعد أن واجهت المشجعة صعوبة في الدخول بسبب وضعيتها الصحية، تحوّل الموقف بسرعة إلى لحظة تضامن إنساني، حين تدخلت السلطات المغربية المكلفة بالتنظيم، إلى جانب عناصر الأمن، لتوفير المساعدة اللازمة. تهيئة للمسار، مرافقة شخصية، وحرص واضح على سلامتها وراحتها، في احترام كامل لكرامتها، ودون أي اعتبار للجنسية أو الخلفية. لحظة اختزلت فلسفة كاملة: الأمن في خدمة الإنسان، لا العكس.
هذا المشهد، الذي لقي إشادة واسعة من متابعين من مختلف الدول الإفريقية، لم يكن حالة معزولة، بل جزءاً من صورة أشمل لتنظيم مغربي اختار أن يجعل من الانسيابية والبعد الإنساني أساساً لتدبير الحدث. إشادات متكررة صدرت عن وفود إعلامية ورياضية، أكدت أن المملكة وفّرت تجهيزات خاصة ومواكبة ميدانية لفائدة الأشخاص في وضعية إعاقة، وجعلت ولوج الملاعب تجربة ممكنة للجميع.
خلف هذا الهدوء الظاهر، اشتغلت منظومة أمنية دقيقة منذ وقت مبكر. قبل صافرة البداية، كان التخطيط قد انطلق: تحليل تدفقات الجماهير، تنسيق بين مختلف المتدخلين، وتبادل مستمر للمعطيات عبر مركز التعاون الشرطي الإفريقي، الذي اشتغل كغرفة قيادة مشتركة. لم يكن دوره رمزياً، بل عملياً وملموساً، من خلال تتبع تحركات الجماهير عالية الكثافة، ضبط مواعيد الوصول والمغادرة، وتفعيل آليات الوقاية بدل التدخل المتأخر.
في محيط الملاعب، حيث غالباً ما تكمن أكبر التحديات، برز نجاح الأمن المغربي في تنظيم الفضاء العام. مسارات دخول واضحة، توزيع ذكي لعناصر الأمن، وفرق متخصصة في التواصل مع الجماهير، مكّنت من تفادي الاكتظاظ والتوتر، مع الحفاظ على أجواء احتفالية طبيعية. الوصول إلى الملعب لم يكن اختباراً مرهقاً، بل جزءاً من تجربة رياضية سلسة.
داخل المدرجات، اختار الأمن نموذج الحضور غير الاستفزازي. انتشار مدروس، تدخلات محدودة، وتركيز على التواصل، سمح للفرجة بأن تحتل الواجهة. وفي مشهد لافت، تحوّل عناصر من القوات الخاصة التابعة للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني إلى نقطة جذب للجماهير، حيث حرص مشجعون من جنسيات مختلفة على التقاط صور تذكارية معهم. تفاعل عفوي عبّر عن الإحساس بالأمن والثقة، أكثر مما عبّر عن هيبة السلطة.
حتى في حالات محدودة من الاحتكاك بين جماهير متنافسة، جاء التدخل سريعاً وهادئاً، دون تعطيل للمباريات أو استعمال مفرط للقوة. هذا التوازن بين الحزم وضبط النفس يعكس تكويناً احترافياً، ووعياً بأن صورة البطولة تُحمى بالنجاعة لا بالاستعراض.
ومع صافرة النهاية، لم تنتهِ المهمة. مرحلة خروج الجماهير، التي تُعد من أكثر اللحظات حساسية، مرت بدورها بسلاسة، بفضل تنظيم محكم لحركة السير وتأمين محيط الملاعب ووسائل النقل، ليظل الإحساس بالطمأنينة ممتداً إلى آخر لحظة.
وراء هذا الأداء، تقف إدارة أمنية مغربية تقودها المديرية العامة للأمن الوطني، بتنسيق وثيق مع باقي الأجهزة، اشتغلت بمنطق التخطيط المسبق لا الارتجال، وبروح الفريق لا الفعل الفردي. منظومة راكمت تجربة وطنية خلال سنوات، ونجحت في تحويلها إلى نموذج قاري قابل للتعميم.
مع توالي أيام كأس إفريقيا، لم يعد السؤال المطروح: هل يستطيع المغرب تنظيم هذه التظاهرة؟

بل أصبح: كيف نجح في جعل تنظيم حدث قاري بهذا الحجم يبدو أمراً عادياً؟
وهو، في منطق التظاهرات الكبرى، أعلى درجات النجاح. فالمغرب لم يكسب فقط رهان الأمن، بل رسّخ صورة بلد يجعل من الانسيابية، والبعد الإنساني، والعمل الهادئ في الخلفية، أساساً لتنظيم يليق بالقارة الإفريقية… ويتجاوز حدود البطولة نفسها.

