الصحافة التي تُموَّل من أجل الصمت لا يمكن أن تُمارس دورها في الدفاع عن حقوق الإنسان

0

الكارح أبو سالم 

يحلّ اليوم العالمي لحقوق الإنسان، والحديث عن حرية الصحافة في المغرب لم يعد ترفاً فكرياً، ولا نقاشاً نخبوياً، بل أصبح جزءاً من صميم سؤال الحقوق الأساسية. فحق المواطن في المعلومة، وحق المجتمع في مراقبة السلطة، وحق الصحافي في العمل دون خوف… كلها حقوق مُدرجة ضمن المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لكنها اليوم تواجه واقعاً مهنياً مضطرباً، تُهيمن عليه الهشاشة، وتثقله تبعية مالية مُقنّعة، فالمشهد الإعلامي المغربي لم يعد يحتاج إلى تقارير المنظمات الدولية كي يفهم اختلاله؛ يكفي تتبع علاقة الصحافة بالدعم العمومي لفهم كيف تحوّلت الآلية التي كان يُفترض أن تحمي المهنة إلى منظومة تُعيد تشكيلها من الداخل، وتدفعها نحو الصمت بدل الشجاعة.
في العقود الأولى من تاريخ المغرب، شكّلت الصحافة فضاءً مفتوحاً للاختلاف، ومنبراً للصراع السياسي، وخندقاً للمثقفين الذين آمنوا بأن الحبر يمكن أن يغيّر الواقع. كانت الجرائد الوطنية – رغم محدودية الإمكانيات – تمارس دوراً رقابياً حقيقياً، وتخوض معارك فكرية وسياسية تُحرج الحكومة، وتنعش النقاش العمومي، وتمنح المجتمع صوتاً صادحاً، ثم جاءت موجة الجرائد الصفراء التي حوّلت بعض المنابر إلى مساحات للإثارة السطحية، فاختلط الجدي بالهامشي، وضاعت معايير المهنية، بينما بدأ الجمهور يفقد ثقته تدريجياً،ومع بروز الصحافة الإلكترونية، اهتزت مداخيل الجرائد الورقية، وسقطت المقروئية سقوطاً حاداً، لتبدأ المؤسسات في البحث عن العلاج الوحيد المتبقي: الدعم العمومي.

الدعم… حين يصبح وسيلة لتقييد ما صُمّم لتحريره

ارتفع الدعم العمومي من 5.5 مليار سنتيم سنة 2019 إلى 20.5 مليار سنتيم سنة 2020، ثم إلى 26.5 مليار سنتيم اليوم، مع توقعات ببلوغه 27.7 مليار سنتيم سنة 2026، لكن المفارقة أن هذا الارتفاع لم يرفع الجودة، ولا زاد عدد التحقيقات، ولا حصّن استقلالية غرف التحرير وعلى العكس، بدا أن كل زيادة في الدعم تُوازيها زيادة في الصمت. ،فحين تتلقى مؤسسة إعلامية جزءاً كبيراً من ميزانيتها من المال العام دون معايير صارمة، يصبح من الطبيعي أن تنكمش مساحة الجرأة ،وبالتالي حين يتحوّل أجر الصحافي – بشكل مباشر أو غير مباشر – إلى تحويلة قادمة من وزارة، تظهر أخطر أنواع الرقابة: الرقابة الذاتية المدفوعة، وهذه الرقابة لا تحتاج إلى تعليمات، ولا إلى تهديدات ويكفي أن يتذكر الصحافي مصدر راتبه كي يكتب بقلمٍ مرتجف، أو يتجنب موضوعاً حساساً، أو يُطوّع زاوية معالجته ليتفادى “الإزعاج” وما دام الصحافي يخشى خسارة دخله، فلن يغامر بكتابة ما قد يُغضب الجهة التي تموّل مؤسسته.

مؤسسات قوية مالياً… ضعيفة مهنياً

في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، يصبح السؤال أكثر إلحاحاً هو كيف يمكن للصحافة أن تُمارس وظيفتها الرقابية وهي متصلة مالياً بالسلطة التنفيذية عبر دعم غير مشروط؟ وكيف يُمكن مطالبة الصحافي بالدفاع عن حرية التعبير وهو ما يزال غير مُطمئن على أجره الشهري؟
ومعلوم ان المؤسسات الأكبر حضوراً في الإشهار العمومي والخاص هي نفسها التي التزمت الصمت أمام أبرز فضائح المرحلة، من بينها قضية لجنة الدعم الأخيرة وهو صمتٌ لا يمكن تفسيره مهنياً، بل بنيوياً ، فالدعم، حين يصبح امتيازاً، يتحول إلى ضمان صمت لا إلى ضمان استقلالية.

زمن كورونا… حين سقط آخر الجدران

تسببت جائحة كورونا في انهيار ما تبقى من قدرة المؤسسات على تمويل نفسها ،وقتها، صار الصحافي الذي يعمل في مؤسسة خاصة يتلقى أجره مباشرة من الدولة وهذا التحوّل غيّر ميزان القوة داخل المشهد الإعلامي ،حيث اصبحت الحكومة ربّ العمل غير المعلن، والمؤسسة مجرّد وسيط إداري، منذ ذلك الحين، صار الصمت قاعدة، والجرأة استثناءً نادراً.
ومع ظهور مواقع التواصل… بدأ عصر صحافة بلا خطوط حمراء
في الوقت الذي كانت فيه الصحافة التقليدية منشغلة بمطاردة الدعم، ظهرت موجة جديدة من الصحافة غير الرسمية، بلا سقف، بلا تمويل، بلا تكوين كلاسيكي، لكنها تمتلك شيئاً واحداً،وهو الجرأة، هذا الانفجار الرقمي جعل الجمهور يجد في الفضاء الأزرق ما لم يعد يجده في الصحافة التقليدية: صوتاً مباشراً، نقداً بلا فلترة، وجرأة بلا قيود.وهكذا، تحولت الصحافة التي كانت ذات يوم سلطة إلى مهنة مأزومة تبحث عن سبب لوجودها.

في اليوم العالمي لحقوق الإنسان: لا حق في المعلومة دون استقلالية مالية

لا يمكن فصل حرية الصحافة عن الحقوق الأساسية،فحق المواطن في الحصول على معلومة موثوقة، وحق المجتمع في مراقبة تدبير الشأن العام، وحق الصحافي في ممارسة مهنته دون خوف—كلها حقوق تتصدع حين تُربط الصحافة بسقف مالي يحدده الدعم العمومي وإصلاح الوضع اليوم لا يمر عبر إلغاء الدعم، ولا عبر تضخيمه، بل عبر إعادة تعريفه ،بل جعله دعم مرتبط بمعايير المردودية المهنية، والجودة التحريرية، والتحقيقات، والخدمة العمومية، والشفافية ومن دون ذلك، سيظل الدعم مجرد “جزاء” على الصمت، لا رافعة لحرية التعبير.

لا حرية صحافة بلا حرية مالية

في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، من الضروري الاعتراف بأن أزمة الصحافة المغربية ليست أزمة موارد، بل أزمة رؤية واستقلالية وصحافة تتلقى الأجر من السلطة لا تستطيع مساءلتها وصحافي يخشى خسارة راتبه لا يمكنه أن يحمي حق المجتمع في المعلومة ومؤسسة تشتغل بمنطق الامتيازات لا بمنطق الرسالة لن تُسهم في بناء ديمقراطية حقيقية في حدودها الدنيا.
ختاما ،الصحافة التي تُموَّل من أجل الصمت، لا يمكن أن تُمارس دورها في الدفاع عن حقوق الإنسان واستعادة حرية الصحافة تبدأ من استعادة استقلاليتها… المالية أولاً، والمهنية دائماً

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.