رأيي لا يهمكم: التسجيل المسرب لم يصنع الأزمة الأزمة هي التي صنعت التسجيل

0

الگارح ابوسالم: Cap24 

من موقع صحافي قضّى أكثر من ثلاثين سنة بين الروابط المعدنية للمطابع وضجيج غرف التحرير، أجد نفسي اليوم مضطراً لقول ما يجب قوله بصراحة: ما نعيشه اليوم في المشهد الإعلامي لم يهبط من السماء، بل هو نتيجة مسار طويل من الاختيارات الخاطئة، ومن التنازلات التي بدأت صغيرة ثم تضخّمت حتى ابتلعت روح المهنة.

حين دخل الدعم… خرجت الاستقلالية من الباب الخلفي

لم يكن الدعم العمومي في بداياته خياراً بريئاً. كان يبدو حلاً لأزمة مالية بنيوية، لكنه سرعان ما تحوّل إلى أداة ضبط إيقاع، وإلى ميزانٍ غير معلن لتوزيع الولاءات. منذ اللحظة التي تحوّل فيها الصحافي إلى “مُدعَّم”، والجرائد إلى “مشاريع مُعالة”، لم يعد ممكناً الادعاء بأننا نملك تلك المسافة الحرجة التي كانت تصنع قوة الصحافة في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات،في تلك العقود، كان الصحافي ضميراً يقظاً، لا يطلب مقابلًا ولا ينتظر منّة. كان يكتب لأن الكتابة موقف، ولأن الحقيقة رأس مال لا يُشترى. أمّا اليوم، فالمعايير التي وُضعت لتوزيع الدعم – سواء بنيت على المقروئية أو على “مشروع الخط التحريري” أو على علاقات الظل – كانت كافية لإعادة تشكيل خريطة الصحافة وترويضها.

من “المهنة” إلى “الارتحال” بين مكاتب السياسيين

حين فقدت الصحافة صلابتها، تقدّم السياسي. وحين تنازلت غرف التحرير عن استقلاليتها، تمدّد منطق “التأطير” و”التوجيه”. لم يعد مستغرباً أن نرى صحفاً تستفيد من دعم مضخم، بينما لا يُعرف لها أثر في الشارع أو حضور في المتابعة. هكذا تحوّل الدعم من وسيلة إنقاذ إلى آلية اصطفاف،ومع مرور الوقت، تشكّلت حول هذا الدعم شبكات تعرف كيف تُمسك بالخيوط، وكيف تمرّر الأسماء، وكيف تُقصي أخرى. وما نعيشه اليوم هو ببساطة ثمار هذا البناء المشوّه.

المجلس الوطني للصحافة… مؤسسة وُلدت تحت ضغط الحسابات

عندما طُرح تأسيس المجلس الوطني للصحافة، توقع الصحافيون المصوتون – وانا منهم – أن يشكّل خطوة نحو التنظيم الذاتي الحقيقي. لكن المسار لم يكن على قدر الانتظار؛ فقد أحاطت به تجاذبات نقابية وسياسية، وطُبخ بطريقة جعلته أقرب إلى تسوية فوقية منه إلى مؤسسة منتخبة بروح ديمقراطية. ومنذ تشكيله، ظهرت بوادر الانغلاق: التعويضات، الامتيازات، الاحتكاكات بين الأجنحة، وعودة “ثقافة مولا نوبا” بين الحزبين اللذين يتناوبان على تسيير النقابة وكأنها إرث عائلي. كل هذا صنع مناخاً مشحوناً، وكانت النتيجة مجلساً يفتقد الشرعية في نظر جزء واسع من الجسم الصحافي.

نهاية الولاية… وانفجار المسكوت عنه

مع اقتراب نهاية الولاية، برز الصراع على السطح: تيارات تريد الحفاظ على الامتيازات، وأخرى تحاول كسر “مولا نوبا”، ووزارة وجدت نفسها لاعباً مباشراً. النتيجة: بلوكاج وشلل مؤسساتي انتهى بتعيين لجنة مؤقتة، خطوة لا يمكن فهمها إلا باعتبارها إعلاناً صريحاً بأن البيت من الداخل كان هشّاً.

والأخطر هو ما كشفته بعض التسجيلات المتداولة: لهجة تَحكُّم، نظرة استعلاء، وإحساس بأن بعض “الكبار” أصبحوا يعتبرون أنفسهم أصحاب القرار فوق كل أجهزة الدولة. إن صحّ ما جاء في الفيديو، فالمشهد صادم، ليس لأن فيه تجاوزات، بل لأنه يكشف أن بعض من كنا نراهم “أعمدة المهنة” لم يعودوا سوى أدوات ضمن لعبة أكبر.

نحن أمام لحظة إعادة صياغة… أو لحظة سقوط نهائي

ما يحدث اليوم ليس مجرد خلاف نقابي ولا صراع مواقع. نحن أمام امتحان وجودي للمهنة:

هل نريد صحافة مستقلة، لها رأي ولها سلطة أخلاقية؟ أم نريد إدارة للتواصل العمومي، تعمل بمنطق القرب والولاء؟ من موقع صحافي قضّى أكثر من ثلاثين سنة بين الروابط المعدنية للمطابع وضجيج غرف التحرير، أجد نفسي اليوم مضطراً لقول ما يجب قوله بصراحة: ما نعيشه اليوم في المشهد الإعلامي لم يهبط من السماء، بل هو نتيجة مسار طويل من الاختيارات الخاطئة، ومن التنازلات التي بدأت صغيرة ثم تضخّمت حتى ابتلعت روح المهنة.

بعد ثلاثين سنة من الممارسة، أعرف جيداً أن الصحافة لا تموت دفعة واحدة. إنها تتآكل بالصمت، وبالتطبيع مع الانحرافات الصغيرة، وبالقبول التدريجي بأن “الأمور هكذا”.لكنني أعرف أيضاً أن كل لحظة أزمة تحمل فرصة.

والسؤال اليوم:

هل يستغل الجسم الصحافي هذه الفرصة لاسترجاع استقلاليته، أم يترك المهنة تنزلق نحو وضع لا عودة منه؟

الجواب سيكتبه القادم، لكن المؤكد أنّ ما وصلنا إليه… هو حصيلة طريق بدأ يوم قبِل البعض أن تكون الصحافة مُدعَّمة أكثر مما هي مُستقلة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.