الإعلام والمشهد الإشهاري يتحشرج بين كفتي الاستحواذ الإداري والغباء البشري

0

الكارح أبو سالم – Cap24-

منذ سنوات، يعيش المشهد الإعلامي المغربي على وقع سؤال جوهري: كيف يمكن تحويل الإعلام العمومي من جهاز إداري ثقيل إلى مؤسسة تواكب تحولات الاتصال والرقمنة والتنافس بثقة في سوق الإعلان المتغيّر؟
وفي قلب هذا السؤال، تبرز وكالة الإشهار التابعة للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية (SNRT) من جهة، وشركة Régie 3 من جهة أخرى، كرمزين لوجهين مختلفين في إدارة الفعل الإشهاري بالمغرب:

• الأول ما زال مشدوداً إلى منطق الإدارة العمومية التقليدي ،
• والثاني يتحرك بعقلية السوق والانفتاح التجاري،
لكن المفارقة أن كليهما، رغم اختلاف الأسلوب، لم ينجحا بعد في رسم ملامح نموذج إشهاري مغربي متكامل ومتجدد.
فهل يكمن الخلل في طبيعة كل مؤسسة على حدة، أم في غياب إرادة حقيقية لتوحيد الجهود ضمن رؤية وطنية موحدة تحت لواء “هولدينغ الإعلام العمومي” المنتظر؟ هذه هي الإشكالية التي نحاول مقاربتها هنا.

وكالة الإشهار التابعة لـ SNRT: بين بطئ الإدارة وطموح التجديد تمتلك SNRT إمكانيات ضخمة، من حيث شبكة القنوات، الإذاعات، والانتشار الترابي، ما يجعلها في موقع استراتيجي لتكون فاعلاً مركزياً في السوق الإشهاري الوطني.
غير أن تقارير رسمية – من بينها تقرير المجلس الأعلى للحسابات – كشفت أن أداء الوكالة ما يزال دون الإمكانات المتاحة، سواء على مستوى ملء الفضاءات الإشهارية أو تطوير المردودية التجارية.
فهي في الغالب تعتمد على الإعلانات الجاهزة الصادرة عن مؤسسات عمومية، وتتعامل مع الإشهار بمنطق “تدبير المساحات” أكثر من منطق “صناعة المحتوى الإعلاني” الذي يتطلب ابتكاراً وإبداعاً وتنسيقاً استراتيجياً مع القنوات التلفزية التابعة لها.
ومع أن بعض مبادرات التحديث بدأت تظهر – كما أعلنت المديرة إلهام هراوي عن تصور جديد يقوم على “الابتكار والمسؤولية والثقافة” – فإن التحول الرقمي ما زال يسير ببطء، والذكاء الاصطناعي لم يجد بعد طريقه إلى منظومة التسيير الإشهاري العمومي، بعبارة أخرى، ما زالت الوكالة تشتغل بعقلية الإدارة العمومية، في زمن تُقاس فيه القيمة الإشهارية بالبيانات والذكاء التنبؤي والتحليل الآني لسلوك الجمهور.

شركة Régie 3: ديناميكية السوق وحدود التموقع:

في الجهة المقابلة، تبدو Régie 3 أكثر مرونة وانفتاحاً، فهي شركة تتبنّى رؤية تجارية حديثة، وتقدّم نفسها كأول “ريجي متعددة الوسائط” في المغرب، تجمع بين التلفزة، الراديو، الصحافة، والمنصات الرقمية، فقد أعلنت قبل أشهر عن مشروع استراتيجي جديد تحت شعار «Connecte – Transforme – Valorise»، يروم تجديد أدواتها وتعزيز حضورها الرقمي عبر ما سمّته «Régie 3».
هذه المبادرات تعبّر عن وعي استباقي بأهمية التحول التكنولوجي، لكنها تظل في حدود التصور والخطاب أكثر مما هي ممارسة ميدانية متكاملة.
فالسوق المغربي ما زال محدوداً من حيث الاستثمار في الابتكار الإشهاري، وتظل المنافسة محتدمة مع المنصات الرقمية الكبرى، التي تستحوذ على جزء مهم من الكعكة الإعلانية.
ورغم حيوية Régie 3، إلا أنها لم تنجح بعد في خلق قطيعة حقيقية مع النموذج التقليدي، ولم تبلور بعد هوية جديدة تجعلها مرجعاً وطنياً في مجال الإشهار الذكي أو الإبداع التفاعلي.بين المؤسستين: صراع الرؤى أم تشتّت الجهود؟

المفارقة الكبرى أن المؤسستين تشتغلان على أرض واحدة – أرض الإعلام الوطني – لكن في مسارين متوازيين لا يلتقيان.
فبدل أن يتكاملا في بناء منظومة إشهارية وطنية متطورة، نجد بينهما تباعداً مؤسساتياً، وأحياناً توتراً غير معلن، تغذيه الحسابات المرتبطة بمشروع الهولدينغ الإعلامي العمومي الذي يُراد له أن يوحّد القطب السمعي-البصري المغربي.
إذ إن الوكالة الإشهارية أصبحت اليوم مركز الصراع الحقيقي داخل هذا المشروع: من سيتحكم في الإشهار سيتحكم في موارد الإعلام العمومي بأكملها.
ولذلك، نرى تردداً في الحسم، وتبادلاً للرسائل المبطّنة بين الفاعلين، في حين يضيع الزمن الإصلاحي ويستمرّ الهدر المؤسسي.
فالمشهد يشبه إلى حدٍّ كبير معركة بين “إداريين” و“مبدعين”، بين من يدافع عن منطق المحافظة والتدبير الروتيني، ومن يطالب بانفتاح السوق واستيعاب الثورة الرقمية
لكن المأساة الحقيقية هي أن الكل يدّعي العمل من أجل مصلحة الوطن، بينما المصلحة الوطنية تقتضي توحيد الجهود لا تشتيتها.

نحو نموذج موحّد: هل من سبيل إلى المصالحة المؤسسية؟

إن التجارب الدولية في هذا المجال تقدّم نماذج ناجحة:
• ففرنسا جمعت قنواتها العمومية ضمن هيكل موحّد (France Télévisions Publicité) مكّنها من تسويق الإشهار التلفزيوني والرقمي بفعالية أكبر.
• وفي كندا، طوّرت CBC/Radio-Canada نظاماً موحّداً لإدارة الإعلانات الرقمية يعتمد على الذكاء الاصطناعي والتحليل السلوكي للمشاهدين، وفي المغرب، ليس من المستحيل تكرار التجربة.
الحل ليس في ذوبان إحدى المؤسستين داخل الأخرى، بل في تأسيس منصة إشهارية عمومية-خاصة مشتركة، تجمع صرامة الدولة ومرونة السوق، وتُشغّل بمنطق الشراكة لا السيطرة.
هذه المنصة يمكن أن تكون نواة “الهولدينغ الإشهاري العمومي” الذي طال انتظاره، وتقوم على خمسة مبادئ أساسية:

التحول الرقمي المندمج: الانتقال من البيع الكلاسيكي للمساحات إلى إدارة بيانات الجمهور وتخصيص الإعلانات حسب الفئات المستهدفة.
– صناعة المحتوى الإشهاري: خلق وحدات إبداعية داخل القنوات العمومية لإنتاج حملات متكاملة تراعي الهوية الثقافية وتنافس المنصات الخاصة.
الذكاء الاصطناعي في التسويق: تطوير خوارزميات لتحليل التفاعل اللحظي مع المادة الإشهارية وقياس أثرها.
الشفافية والتقويم: إنشاء مؤشرات دقيقة لقياس المردودية (ملء المساحات، نسب التحويل، رضا المعلنين).
5 تأهيل الموارد البشرية: تكوين جيل جديد من مهنيي الإشهار يجمع بين الحس الإبداعي والمعرفة الرقمية والقدرة على قراءة السوق

خلاصات واستشراف:

• إن استمرار التنافر بين وكالة الإشهار العمومية وRégie 3 يُفقد المشهد الإشهاري المغربي وحدته وتوازنه، ويجعل كل مؤسسة تشتغل في دائرة مغلقة.
• ما نحتاجه ليس “استحواذاً” بل تكاملاً مؤسساتياً يُعيد تعريف وظيفة الإشهار كقطاع استراتيجي لا كعائد مالي فقط.
• إذا تحقق هذا التكامل في إطار “الهولدينغ الإعلامي” المنتظر، فإن المغرب يمكن أن يمتلك نموذجاً فريداً يجمع بين المصداقية العمومية والدينامية السوقية، ويعيد الثقة إلى سوق الإشهار الوطني.
• أما إذا استمر الصراع على من يملك “ريشة الإشهار”، فسيبقى الإعلام العمومي مرآة مشروخة تعكس ازدواجية القرار وضعف الرؤية.

باعتبار ان الإشهار ليس مجرد فواصل زمنية بين البرامج، بل هو لغة عصر، ومؤشر على قدرة الإعلام على التكيّف والابتكار.
وحين تظل وكالة الإشهار العمومية أسيرة البيروقراطية، وتظل الشركة الخاصة أسيرة منطق السوق دون بُعد وطني، فإن الوطن يخسر مرتين.
المستقبل لن يكون للأقوى مالاً، بل للأذكى فكراً وتنظيماً.
والرهان الحقيقي هو أن ننتقل من “التنافس على الموارد” إلى “التنافس على الإبداع”، ومن الصراع على المؤسسات إلى صناعة رؤية وطنية تجعل الإشهار رافعة من روافع السيادة الإعلامية والثقافية للمغرب، والقضاء على التهافت وتضارب المصالح .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.