بقلم : لحسن الجيت
لقد عودنا النظام الجزائري في علاقاته المتقلبة مع فرنسا أن يتظاهر برفع السقف فيما يشبه “لعبة اليد الحديدية” لكن سرعان ما يتراجع لينهار ومعه سقفه. إنها ليست المرة التي نسجل عليه هذه التراجعات منها ما جرى مع باريس نفسها حينما اعتاد ذلك النظام أن يسحب بين الفينة والأخرى سفيره لدى فرنسا إلى أن أصبح هذا الأخير بغدوه ورواحه بمثابة كرة “البينغ بونغ“. وكذلك الحال في علاقته المتأرجحة مع إسبانيا.
إن كان هناك ما يدل على شيء يمكن أن نصف به النظام الجزائري وهو أنه قد دحل بالفعل مرحلة فقدان التوازن، لا يعرف ما يقدم وما يؤخر وتقطعت به السبل وفقد الاتجاه الصحيح في ملتقى الطرق. هذا النظام سعى ويسعى على قدر ما أوتي من جهد إلى عزل المغرب عن محيطه ففشل فشلا ذريعا. استخدم كل الأساليب لتحقيق غايته. حاول بالترغيب وبالإغراءات والتودد والانبطاح لعل باريس ترأف من حاله وتسايره في أهوائه ونزواته العدوانية للمغرب. وحينما لا يتأتى له ذلك سرعان ما ينقلب رأسا على عقب باللجوء إلى ما يسمى بالتهديد والوعيد الأقرب إلى بكاء الطفل الصغير. لا تهديد ولا هم يحزنون سوى ضغضغة مشاعر الجزائريين والإيحاء لهم بأن دولتهم الفاشلة تقارع أعتى الدول.
اليوم كذلك يمر النظام الجزائري من امتحان عسير في علاقته مع باريس ويتعلق الأمر بفضيحة المواطن الجزائري الذي طردته السلطات الفرنسية بعد أن وقفت على حقيقته وهو ينشط في مجال التحريض وإثارة الفتن فوق الأراضي الفرنسية. وليس من المهم أن يكون هذا الطرد قد سلك مسالك قضائية في حق ذلك المواطن كما يحاول أن يروج النظام الجزائري من خلال البلاغ الذي أصدرته وزارة خارجيته، بل الأهم من ذلك والذي حاول أن يتستر عليه النظام هو رفض السلطات الجزائرية الاستقبال والترحيب بذلك المواطن بل أعادته بجوازه الجزائري وهو أمام مصلحة الجوازات في مطار هواري بومدين. لقد حرم المواطن المسكين من الدخول إلى وطنه وكأن لسان حاله يقول “أين المفر وأين المستقر، ها هو الوطن يطردني وهاهو الغريب يسجنني”.
حجة النظام الجزائري في ذلك وهو أنه أراد أن يقايض فرنسا بواحد من أبناء الوطن بالادعاء، كما جاء في بلاغ الخارجية الجزائرية حرفيا “إن القرار الجزائري بخصوص هذه القضية قد أملاه الحرص على السماح لهذا المواطن بالمطالبة بحقوقه والدفاع عن نفسه في إطار مسار قضائي عادل ومنصف”. هذا التبرير الذي يحاول أن يوهم به الرأي العام الجزائري هو تبرير واهي.
فإن كانت هناك حقوق لذلك المواطن فهي حقوق المواطنة التي هي أولى من أية حقوق أخرى ذات طابع مادي. ثم أليس أمام هذا المطرود من سبيل أو خيار آخر يساعده على حقوقه المكتسبة إلا بضرورة إعادته إلى فرنسا؟ لا أعتقد ذلك، بل الدولة الجزائريةمدعوة ، إن كانت جادة فيما تدعي، أن تتحمل المسؤولية بنفسها وأن تنتدب له فريقا من المحامين لمتابعة حقوقه في عين المكان. ومن المؤكد أن العدالة الفرنسية قد تنصفه وبالتالي قد يتمكن من استيفاء ما لديه من حقوق بدلا من أن تساهم الدولة الجزائرية في إعادته إلى السجن وتعميق جراحه ومأساته.
فالنظام الجزائري له غايته وليس بالضرورة أن تلتقي مع هواجس هذا المواطن أو غيره. آخرون حاول النظام الجزائري اختطافهم كما فعل مع هشام عبود لإدخالهم غصبا إلى أرض الوطن، فيما هذا الذي جندوه واستخدموه تنكروا له ولخدماتهوأعادوه من حيث جيء به ليحرم من خبز أمه وعطف أبيه.
ويتحدث النظام الجزائري بدون وجل عن الحقوق المكتسبة في حالة الطرد، فلماذا لم يستحضر تلك الحقوق عام 1975 بالنسبة للمغاربة الذين أخرجهم الجيش الجزائري من فراشهم وتم رميهم في غسق الليل وفي العراء على الحدود مع المغرب. فبأي ذنب طردوا وأية محاكمة أقيمت لهم حتى تقام لهذا المواطن الجزائري، كما يتشدق بذلك هذا النظام.
والحقيقة المرة أن النظام الجزائري آخر ما يهمه هي تلك الحقوق. فالمواطن كما تراه دولة العسكر لا يعدو أن يكون سوى مطية تستخدم للمساومة الرخيصة التي تحط من كرامة الإنسان في العلاقات الخارجية للنظام، ومتى كان الأفراد يستخدمون كقربان في العلاقات بين الدول؟. بل أن نية هذا النظام هو تحويل هذه القضية إلى أزمة مع فرنسا وجعلها أرضية للبناء عليها في مد جسور التواصل من جديد مع باريس. ونقيم الدليل في ذلك على ما تضمنه بلاغ الخارجية الجزائرية. فالبلاغ صيغ بطريقة شيطانية لكنها مكشوفة. فهو لم يهاجم الدولة الفرنسية ولم ينتقدها بل حمل المسؤولية في هذا الطرد إلى ما سماه “باليمين المتطرف” وهي إشارة واضحة من النظام الجزائري الذي قال في نفس البلاغ “بأن الجزائر لم تنخرط بأي حال من الأحوال في منطق التصعيد أو المزايدة أو الإذلال، مضيفا، أن اليمين المتطرف وممثليه هم الذين يريدون أن يفرضوا على العلاقات الجزائرية الفرنسية ضغائنهم المليئة بالوعيد والتهديد“.
بلاغ فيه نوع من الاستسلام ومن المحاباة والتودد للرئاسة الفرنسية بعد الأزمة الحادة التي استفحلت في أعقاب اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء. أشهر عجاف تمر الآن على النظام الجزائري وهو يرى في نفسه الخاسر الأكبر في كل المعارك التي خاضها لعزل المغرب. رهانه كان وما زال ألا يخسر أم المعارك في علاقته مع فرنسا وأن يعمل على تحييدها. وقد جاءه الرد على لسان وزير الداخلية الفرنسي الذي خاطب الجزائر بتبرة من التهديد غير مسبوقة. لكنه لغاية الآن ما زال النظام الجزائري لا يصدق ولا يريد أن يفهم أن مستقبل المنطقة مرهون برجالها وأن العالم بأسره فهم أن المغرب في كل ذلك هو حجر الزاوية، إلا الجزائر التي استعصي عليها الفهم، رغم سياسة اليد الممدودة. فإلى متى؟