الگارح ابو سالم
لا يمكن لأي متابع منصف أن ينكر أن تنظيم المغرب لكأس إفريقيا للأمم بهذا الحجم، وبهذا المستوى من التميز، ليس حدثاً عادياً في تاريخ الكرة الإفريقية. نحن أمام عرس قاري متكامل الأركان، نجحت فيه المملكة في توفير كل شروط النجاح اللوجستي، التنظيمي، والأمني، إلى درجة أن صيت التنظيم بلغ آفاقاً غير مسبوقة، وجعل المغرب نموذجاً يُحتذى به قارياً ودولياً.
غير أن المنطق الرياضي، كما منطق الجماهير، يفرض سؤالاً مركزياً لا مهرب منه: هل يعقل أن نُتقن تنظيم العرس، ونُخفق في الظفر بالكأس؟
المغاربة، بكل أجيالهم وأعمارهم، ينتظرون منذ نصف قرن أن يذوقوا مجد كأس إفريقيا للأمم، الكأس الوحيدة التي تتيمة في خزائن الكرة الوطنية منذ خمسين سنة. نصف قرن من الانتظار، في زمن تغيّرت فيه ملامح الكرة المغربية، وتحوّل فيه المنتخب الوطني إلى أحد أغلى وأقوى المنتخبات الإفريقية من حيث القيمة السوقية، وعدد اللاعبين المحترفين في أكبر الدوريات الأوروبية، والمنتمين لأندية لها وزنها القاري والعالمي
.
في ظل هذه المعطيات، يصبح الإخفاق في التتويج على أرض الوطن أمراً يصعب تقبّله، ليس بدافع العاطفة، بل بمنطق الحسابات الرياضية البحتة.
ولهذا، لا يبدو مستغرباً أن تتوحّد أصوات الجماهير، في المقاهي، الملاعب، الشوارع، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، حول تقييم صارم لأداء المنتخب، وأن يُصبّ جزء كبير من الغضب على المدرب وليد الركراكي، خصوصاً فيما يتعلق بالاختيارات التقنية وطريقة اللعب، سواء أمام مالي، أو قبلها أمام جزر القمر، وفي عدد من المباريات الإعدادية والرسمية.
الإشكال، في نظر المتتبعين، لا يكمن فقط في العقم التهديفي، بل في غياب أداء ميداني مقنع يُبرر الصبر. فلو كان الاستعصاء الهجومي مصحوباً بانسجام واضح، وبهيمنة تكتيكية، لكان النقاش مختلفاً. لكن ما يظهر على أرضية الملعب هو تركيب غير متوازن، ولاعبون يوظَّفون في مراكز ليست مراكزهم الطبيعية، في وقت يتوفر فيه المنتخب على مواهب شابة، أقل من عشرين سنة، بصمت على إنجاز عالمي في كأس العالم، وتفوقت في الأداء والجرأة على أسماء تحظى اليوم بثقة أكبر دون مردود مماثل.
حتى منتخب الرديف يزخر بعناصر متمرسة، كان بالإمكان أن تشكل إضافة حقيقية، غير أن الانطباع السائد هو أن الطاقم التقني ما زال أسير ذكريات ملحمة قطر، حين بلغ المنتخب المربع الذهبي في سياق تكتيكي مختلف تماماً.
في مونديال قطر، واجه المغرب منتخبات كبرى تملك زمام المبادرة، فاعتمد الدفاع المحكم، والانضباط، والمرتدات القاتلة. أما اليوم، فالوضع انقلب رأساً على عقب: المنتخب المغربي هو الطرف المصنّف عالمياً (الحادي عشر)، وهو المطلوب منه صناعة اللعب، في مواجهة منتخبات إفريقية تلعب دون عقد، وتراهن على إرباكه بهجمات مرتدة، مستثمرة أي خلل في التنظيم الدفاعي أو الانتقال السلبي.
هذا التحول يفرض ميكانيزمات جديدة، ودفاعاً قادراً على بناء اللعب بهدوء، ووسط ميدان منسجماً، وخيارات هجومية واضحة، وهو ما لم يظهر بعد بالشكل المطلوب.
من هذا المنطلق، لا يمكن تحميل الجماهير المغربية مسؤولية ردود فعلها. فالإحباط مشروع حين ترى شعباً يُهيّئ كل شيء للنجاح، ويوفر أفضل الظروف، ويُبهر القارة بتنظيم غير مسبوق، ثم يخشى أن يغادر المنافسة دون تتويج يليق بكل هذا المجهود.
لعل مباراة مالي تكون تلك الرجّة العنيفة الضرورية، التي تعيد الجميع إلى جادة الصواب: المدرب، الطاقم التقني، اللاعبون، وحتى المحيط الكروي ككل. فحجم الانتظارات لا يسمح بالمراوحة، ولا بالاكتفاء بحسابات ضيقة. التنظيم الجيد، مهما بلغ مستواه، يفقد جزءاً كبيراً من بريقه إن لم يُتوّج بلقب.
وبما أن الحديث عن هذا الحدث لا يكتمل دون التوقف عند الإعلام، فإن مستوى التحليل المقدم في القنوات الوطنية، خصوصاً قناة الرياضية، يطرح بدوره أكثر من علامة استفهام. فمن خلال المتابعة اليومية لبرامج التحليل، يلاحظ المتتبع اعتماداً مفرطاً على أسماء تمتلك التجربة الميدانية، لكنها تحضر في كثير من الأحيان دون تحضير علمي كافٍ.
يتجلى ذلك في الأجوبة الجاهزة، واللغة الخشبية، والإنشاء الفضفاض الذي يغيب عنه العمق، والإحصائيات، وقراءة الخصم، والمعطيات الدقيقة. التحليل الرياضي الحديث لم يعد رأياً شخصياً أو استحضاراً لتجربة لعب سابقة، بل أصبح علماً قائماً على الأرقام، والتحضير، ودراسة التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفارق.
نتيجة ذلك، يجد المشاهد المغربي نفسه مضطراً أحياناً للبحث عن منصات أخرى تقدم تحليلاً أعمق وأكثر احترافية، وهو أمر لا يخدم صورة الإعلام الوطني في لحظة كروية مفصلية.
ختاماً، يمكن القول إن المغرب نجح في امتحان التنظيم بامتياز، لكن امتحان التتويج ما زال مفتوحاً. والجمهور الذي أعطى دروساً في التشجيع والانضباط، من المدرجات إلى شوارع قطر، لا يطلب المستحيل، بل يطلب تتويجاً يُكافئ صبره، ويمنح لهذا العرس الإفريقي معناه الكامل: كأس إفريقية تُرفع على أرض الوطن، وتُهدي الفرح لجيل انتظرها طويلاً

