رأي لا يهمكم : عندما يدق بنك المغرب ناقوس الخطر.. من يسمع؟
الكارح أبو سالم :
ليست تصريحات والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، حدثًا عابرًا في روزنامة التواصل المؤسساتي، ولا تدخل في باب المناكفات السياسية أو تسجيل النقاط الظرفية. إنها، في جوهرها، تشخيص صادر عن مؤسسة سيادية تطّلع على النسق العام للاقتصاد الوطني، وتشتغل بالمعطيات الرقمية الدقيقة، وتستشرف الاختلالات قبل أن تتحول إلى أزمات صامتة.
حين يؤكد الجواهري أن تراجع التضخم لا يعني عودة الأسعار إلى مستوياتها السابقة، فهو لا يكتفي بشرح فارق تقني بين المؤشر الإحصائي والواقع المعيشي، بل يضع الحكومة أمام مسؤولية سياسية واضحة: مسؤولية التدخل في الزمن المناسب، لا الاكتفاء بالاحتفاء بتحسن الأرقام المجردة، فيما يستمر الغلاء في استنزاف القدرة الشرائية للمواطنين.
الحرج الذي تسببه هذه التصريحات للحكومة لا ينبع من حدّتها، بل من مصدرها. فالكلام لم يصدر عن معارضة تبحث عن تموقع انتخابي، ولا عن فاعل نقابي يرفع سقف الخطاب، بل عن جهة لا مصلحة لها في تلميع الواجهة ولا في ذر الرماد في العيون. بنك المغرب لا يخوض الانتخابات، ولا ينافس على الشعبية، ولا يُجيد لغة التسويق السياسي، بل يتحدث بلغة الأرقام والوقائع.
ومع ذلك، كثيرًا ما يظل هذا الكلام، على وجاهته، معلّقًا في الهواء، لا يجد طريقه إلى الترجمة السياسية، لأنه لا يخدم الأجندة الظرفية للحكومة، أو لأنه يصطدم بحسابات لوبيات اقتصادية متوغلة، ترى في أي إصلاح حقيقي تهديدًا لمصالحها الراسخة.
حديث الجواهري عن إصلاح صندوق المقاصة يعيد طرح السؤال الجوهري: هل المشكل في التوقيت أم في الإرادة؟ فالرجل كان واضحًا حين قال إن الإصلاح قرار سياسي قبل أن يكون تقنيًا، وإن غياب الاستهداف العادل جعل الدعم يستفيد منه من لا يستحقه، على حساب الفئات الهشة. هذا التشخيص ليس جديدًا، لكنه ظل مؤجلًا، لأن كلفة القرار سياسيًا كانت تُعتبر أعلى من كلفة استمراره اقتصاديًا واجتماعيًا.
في الدول التي بلغت مستويات متقدمة من الاستقرار والنمو، الدولة هي من تضع التوجهات الكبرى، والحكومات المتعاقبة تُدبّر داخل هذا الإطار العام، دون المساس بالتوازنات الاقتصادية والاجتماعية. أما حين تتحول الحكومة إلى رهينة لحسابات قصيرة المدى، أو خاضعة لإملاءات لوبيات تبحث عن حماية أرباحها، فإنها تُفرغ السياسة العمومية من بعدها الاستراتيجي، وتحولها إلى إدارة للأزمات بدل الوقاية منها.
إن ما يطرحه والي بنك المغرب ليس بديلاً عن القرار الحكومي، ولا تعديًا على اختصاصاته، بل هو إنذار مؤسساتي يفترض أن يُؤخذ بجدية، لأنه صادر عن جهة ترى الصورة كاملة، لا عن زاوية ضيقة. تجاهل هذه الإشارات لا يعني فقط تضييع فرصة الإصلاح، بل يعني تعميق الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي.
في النهاية، تبقى الحكومة هي الجهة المسؤولة عن اتخاذ القرار، وشرح تبعاته، وتحمل كلفته السياسية. لكن المسؤولية الحقيقية لا تكمن في اتخاذ القرار فقط، بل في الإنصات لصوت الدولة حين يتكلم خارج منطق السياسة السياسوية، وقبل أن تتحول الأرقام التي تُدق ناقوس الخطر بها اليوم، إلى أزمات يصعب احتواؤها غدًا.

