رأيي لا يهمكم :رفع سن التقاعد أكبر وهم إصلاحي في المغرب!
الگارح ابوسالم
لم يعد موضوع رفع سنّ التقاعد في المغرب مجرّد تفصيل إداري أو تقنية مالية تُتخذ لضمان استدامة صناديق التقاعد، بل أصبح مرآة تُظهر عمق الخلل في طريقة تفكير الدولة في ما تسميه “الإصلاح”. فمنذ سنوات طويلة، ظلّ النقاش يُرحّل من حكومة إلى أخرى، وتُعاد إنتاج نفس المبررات، فيما تبقى العلّة الأساس في مكانها: غياب إصلاح حقيقي يلامس جوهر المشكلة التي أنهكت صناديق التقاعد وأفرغتها من قدرتها على الاستمرار.
فحين نُمعن النظر، نجد أنّ رفع السنّ في المغرب لا يرتبط، كما هو الحال في الدول المتقدمة، بتغيرات ديموغرافية حادّة أو بانخفاض حاد في عدد المواليد أو بارتفاع متوسط العمر بشكل يهدد توازن سوق الشغل. تلك الدول، على اختلاف تجاربها، استندت إلى معطيات دقيقة ووقائع علمية دفعتها إلى تعديل سنّ التقاعد بعد أن تبين أنّ أنظمتها الاجتماعية لم تعد قادرة على مواكبة ثقل الشيخوخة. أما في المغرب، فالمشهد مختلف. فمشكلتنا لم تكن يوماً في ارتفاع أعداد المتقاعدين مقارنة بعدد الشباب، بل في عجز هيكلي مزمن، وضعف حكامة، وسنوات من سوء التسيير، إن لم نقل تلاعبات محتملة، جعلت الصناديق تتآكل من الداخل دون أن تمتد إليها يد إصلاح شجاع.
ولأن الأسهل دائماً هو الحلّ السريع، اختارت الحكومات المتعاقبة تحميل الموظفين ثمن الاختلالات، فرفعت سن التقاعد بطريقة شاملة لا تفرّق بين من تزال له إنتاجية عالية ومن لم يعد قادراً أو راغباً في الاستمرار. وهكذا تحول الإجراء إلى “ترقيعٍ” إضافي، لا يحل المشكلة بل يؤجلها، فيما تتسع دائرة الضحايا: شباب يبحثون عن وظيفة فلا يجدون، وإدارة تحتاج إلى دماء جديدة فتُحرم منها، ومستخدمون متقدمون في السن يُجبرون على البقاء في وظائف لم يعودوا يحتملونها.
الأدهى من كل ذلك أن عدداً كبيراً من الموظفين الذين يجدون أنفسهم مكرهين على الاستمرار بعد سنّ التقاعد لا يفعلون ذلك رغبة في الإنتاج أو دفاعاً عن المرفق العام، بل خوفاً من تراجع الراتب أو بسبب ظروف عمل غير مشجعة. وهكذا يُمدَّد العمر الوظيفي خارج منطق العطاء، مما يكرس بطء الإدارة ويقوّي حلقات التراخي، بينما يظل الشباب في طابور الانتظار، يشاهدون باب الوظيفة العمومية يُغلق تحت ذريعة “الإصلاح”.
إن رفع سن التقاعد، حين يتحول إلى إجراء شامل لا يميّز بين الكفاءات ولا يستند إلى دراسة دقيقة، يصبح عبئاً يفاقم الأزمة بدل أن يعالجها. كان الأجدر أن تقوم الدولة بتشخيص علمي، يفرز الفئات التي تحتاج الإدارة بالفعل إلى استمرارها لأن إنتاجيتها ما تزال مرتفعة، عن تلك التي لم تعد قادرة على العطاء وأصبحت الزيادة في سنّها ضرباً من العبث الوظيفي. فالتقاعد ليس عقاباً، ولا يجب أن يتحول إلى سجن إداري يُحبس فيه أشخاص فقدوا الرغبة والقدرة، فتضيع بذلك مصلحة المرفق العمومي، ويُحرم البلد من إعادة تدوير مناصبه وطاقاته.
غير أن المشكلة الأعمق تكمن في هذا المنطق الذي يجعل كل حكومة تفكر بمنطق اللحظة القصيرة، وتبحث عن حلول تمتصّ بها غضب اليوم، متناسية أنّ الإصلاح الحقيقي لا يأتي عبر إجراءات سريعة، بل عبر رؤية بعيدة المدى تنظر إلى الأثر المتراكم، لا إلى أثر قلم في وثيقة حكومية. نحن بحاجة إلى إصلاح يؤمن بالتراكم لا بالترقيع، ويضع سياسة وطنية موحدة للتقاعد، لا أن يُترك الملف رهينة لولاية حكومية عمرها محدود، فتتخذ قرارات قد تجرّ البلد إلى أخطاء يصعب تداركها لاحقاً.
إن رفع سن التقاعد في المغرب، بصيغته الحالية، ليس إصلاحاً بقدر ما هو انعكاس لغياب الإصلاح. وإن استمرار هذا النهج لن يخرجنا من دائرة العجز، بل قد يزيد من البطالة، ويُضعف دينامية الإدارة، ويجعل النظام برمته أكثر هشاشة. الإصلاح الحقيقي يبدأ بتشخيص صريح، وبجرأة سياسية في مواجهة مصادر الخلل، وبإرادة صادقة في حماية مستقبل الأجيال لا في تبديده بقرارات مرتجلة
