قراءة مختلفة تماما في مشروع إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة

0

الگارح ابوسالم

ليست لحظة مناقشة مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة مجرّد محطة تقنية في مسار تشريعي عادي؛ إنها لحظة تاريخيّة تعيد طرح السؤال الجوهري: مَن يملك الحق في تنظيم مَن؟

فلا يمكن لأي نقاش جدي أن ينطلق بعيداً عن أصل وجود الصحافة ، فهي ليست جهازاً إدارياً ينتظر التعليمات، ولا مؤسسة تحتاج إذناً لكي تُمارس دورها، الصحافة، في جوهرها، فضاء للتعبير الحر، وحراسة للحق العام، وممارسة دائمة لطرح الأسئلة التي يفضّل كثيرون ألّا تُطرح. ولهذا، تُبنى قوانينها في التجارب الديمقراطية على ثنائية الحرية والمسؤولية، لا على الإذن والمنع، ولا على منطق الضبط والترويض، فالصحافي يمارس مهنته في إطار احترام القانون والحقوق والحريات، لا في إطار انتظار رضا المؤسسات المالية أو السياسية. يكتب بلا خوف، ويتحدث بلا ولاء إلا للحقيقة، ويمارس عمله بثقة في أن القانون وُضع ليحميه، لا ليحاسبه بالنيابة عن الأقوى،غير أن هذه الصورة تتعقّد حين تتدخل في مسار التشريع أطراف ليست غايتها حماية المهنة، بل حماية مصالحها. فعندما تُفرض الحسابات الاقتصادية، ويُسقِط رأس المال ثقله، وتضبط الدوائر السياسية الإيقاع بحسب ما يناسبها، يتحول القانون—بهدوءٍ وخفاء—من درع للصحافي إلى أداة لإعادة تشكيل المشهد الإعلامي بما يخدم الأقوى. ويصبح الصحافي، بدل أن يكون رقيباً على السلطة، يصبح خاضعاً لها أو محاصراً بها، فتُفرغ المهنة من معناها، ويصير الحديث عن الحرية مجرد واجهة decor لا تُغيّر شيئاً من واقع الهيمنة، وتشتد المخاوف حين يأتي التشريع في مرحلة سياسية ترى فيها الحكومة مصلحة في ضبط إيقاع الصحافة وتقليص حجم صوتها، بدل ترسيخ مكانتها كسلطة رابعة. فإذا استقر هذا المنطق داخل نص القانون، يصبح الخطر مضاعفاً: تدجين الصحافة، تحويلها إلى صدى للخطاب الرسمي، وجعلها جزءاً من أدوات التحكم في الصورة، بدل أن تكون سلطة رقابة ومساءلة.

وتاريخنا مشهدنا لا يخلو من الأمثلة؛ فقد رأينا كيف يصبح الجسم الصحافي هشّاً حين يفقد استقلاله، وكيف يفقد الصحافي صوته حين يُطلب منه حمل “عصا الطاعة” حتى لو كانت مغطّاة بلبوس مؤسساتي ناعم.والحقيقة أن الخطر لا يكمن في تحديث القوانين، بل في تغيير فلسفة التنظيم نفسها: من حماية الحرية إلى تقنين الصمت، ومن تقوية المهنة إلى ترويضها. وحين يحصل هذا التحول، ينهار ما راكمته الصحافة من نضالات وتضحيات على مدى عقود من أجل انتزاع هامش التعبير.

وموازاةً مع هذا، تغيّر المشهد الإعلامي المغربي بشكل جذري. فالمواقع الإلكترونية—من جرائد رقمية إلى قنوات يوتيوب إلى حسابات البودكاست والبث المباشر—أصبحت اليوم فاعلاً مركزياً في صناعة الرأي العام. لم تعد هوامش رقمية، بل منافساً قوياً ومؤثراً، يُحلل ويفضح ويوجّه، وأحياناً يتفوق في تأثيره على المؤسسات التقليدية ،ومن الطبيعي أن يشملها التنظيم، ليس بغرض التضييق، بل لتوحيد قواعد الحرية والمسؤولية واحترام الحقوق. صحيح أن بعض ممارسات الفاعلين الجدد—من تضليل وتشويه وبث محتوى يمس الحياة الخاصة—أثارت جدلاً حول الحدود بين الحرية والفوضى، لكن الحل ليس في تكميم الفضاء الرقمي، بل في إرساء تنظيم يميز بين الصحافة كمهنة وبين المحتوى كفضاء حر، دون خلط يبرّر التقييد أو يمنح الشرعية للتحكم. وفي خضم هذا التحول، انفجرت أزمة المجلس الوطني للصحافة بعد تسريب صوتي هزّ الثقة وأظهر هشاشة البنية الأخلاقية للمؤسسة التي يفترض أن تحمي المهنة. لم يفضح التسريب فقط مضموناً غير لائق، بل كشف آليات عمل غامضة وممارسات تأديبية تفتقر إلى النزاهة والشفافية. وما تبعه من توقيع أكثر من مئتي صحافي على عرائض إصلاحية، ثم وقفة احتجاجية أمام الوزارة، لم يكن سوى مؤشر على عمق الشرخ بين المجلس والجسم المهني، فالصحافيون لم يدافعوا عن موقف عابر؛ كانوا يدقون ناقوس خطر يهدد جوهر المهنة.

ورغم كل ذلك، لم يُعلن الوزير الوصي عن أي تحقيق، ولا عن مساءلة، ولا عن خطوات لإعادة بناء الثقة، مكتفياً بخطاب أنيق حول “تقوية المؤسسة بدل إضعافها”. لكن المفارقة أن الوزارة نفسها هي التي رعت التركيبة المؤقتة التي فجرت الأزمة، ما يجعل السؤال أكثر إلحاحاً: بأي منطق نقوّي مؤسسة تُصنع أزمتها من الداخل؟

في مثل هذه اللحظة، الارتباط المفرط بين السلطة المنظمة والمهنة لا ينتج تنظيماً، بل ينتج هيمنة. وما وقع يثبت أن فك الارتباط هو الشرط الأول لصحافة قادرة على أداء أدوارها دون خوف أو تبعية. لأن الخطر لا يهدد الهامش السفلي للمهنة كما يُروّج، بل يهدد قدرتها الفعلية على السؤال والتحقيق والرقابة.

إن ما يجري ليس نقاشاً عابراً، بل اختباراً حقيقياً لحكومة تدّعي الإيمان بحرية التعبير. اختباراً يطرح السؤال الجوهري: هل نريد صحافة حرة ومسؤولة، أم نريد إعلاماً مطواعاً يُفصَّل على مقاس الظرف السياسي؟ وإذا ظلّ التشريع يُصاغ بمنطق المصلحة الوقتية، فسنظل ننتظر حكومة جديدة بعد كل انتخابات لنكرر نفس الدائرة، بمنطق قد يتغير أو يبقى كما هو.

في النهاية، لا أحد يرفض التنظيم ولا توسيع دائرة المسؤولية، لكن الجميع يخشى أن يتحول التنظيم إلى وسيلة للتضييق، والمساءلة إلى وسيلة لإسكات الأصوات، والرقابة إلى غطاء للهيمنة. وما لم يُبن التشريع على الاستقلال والشفافية والمساءلة المتبادلة، سيظل المشهد الإعلامي معلّقاً بين من يريد الكلام ومن يريد إسكات الكلام.فالصحافة، في النهاية، لا تُحمى بالشعارات، بل حين تظل قادرة على أداء وظيفتها: قول الحقيقة كاملة… حتى حين تُزعج

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.