من يتكلم في المنصات يتكلم في الانتخابات المقبلة المعركة القادمة الدولة ضد الخوارزميات

0

كاب 24:الگارح ابوسالم

ونحن نقترب من الاستحقاقات الانتخابية، يتصاعد القلق داخل الأوساط الرسمية: وزارة الداخلـية، والدوائر التي تصنع الخريطة السياسية، والفاعلون الذين اعتادوا التحكم في إيقاع اللحظات الحاسمة.

الخوف هذه المرة لا يأتي من صناديق الاقتراع، بل من المنصّات الرقمية التي أصبحت قوة قادرة على إرباك الحسابات، وقلب النتائج، وخلط الأوراق دون أن تحتاج إلى رخصة أو وساطة أو بوابة رسمية.

لقد أصبح واضحاً اليوم أن المنصّات الرقمية دخلت قلب اللعبة السياسية وهناك أحزاب تموّل محتوى خفياً، مؤثرون يتحركون وفق أجندات، صفحات مجهولة تضرب تحت الحزام، شبكات نافذة توظف “الإلكتروني” لتمرير رسائلها، ومجموعات تضبط إيقاع الرأي العام من وراء الستاروليس ذلك جديداً:

الحزب الذي قاد الحكومة الحالية بنى صعوده على التحكم في المجال الرقمي، مستنداً إلى موارد مالية ضخمة وأذرع إعلامية غير تقليدية تمكنت من الوصول إلى البيوت وإقناع الناس بأنه المنقذ.

وقبله فعل حزب بنكيران الأمر نفسه، حين صنع “دباباً إلكترونياً” أربك الخصوم، وخلق رأياً عاماً موازياً، وانتهى الأمر بأن انقلب السحر على الساحر.

وكان نتيجة كل هذا بروز جيل “زيد”، جيل الاحتجاج الرقمي، الذي يحشد الآلاف من هاتفه ويصنع عاصفة رأي عام دون حاجة إلى مقر أو بيان.

إنها المعادلة الجديدة: من يتحكم في المنصّات… يتحكم في السياسة،ولذلك يتضاعف القلق كلما اقترب موعد الانتخابات، ويبدأ الحديث عن عقوبات ومراقبة وتشديد، خوفاً من أن تصبح هذه المنصّات ساحة مفتوحة للمعلومات المتناثرة والحملات الخفية التي يقودها لاعبون في الظل.

لكن السؤال العميق هو: كيف وصلت المنصّات الرقمية إلى هذه القوة؟ الجواب بسيط، لكنه موجع:لأن الإعلام العمومي غاب، لأن الفراغ كان كبيراً… وكان لا بد لمن يملؤه.

في العقد الأخير، لم تُحقق المنصّات الرقمية تفوقها لأنها مثالية أو احترافية دائماً، بل لأنها فهمت روح الزمن الجديد: السرعة، التفاعل، اللغة المباشرة، الجرأة، والبساطة التي تصل دون حواجز.اقتحمت المجال العام بلا إذن، قد تكون أخطأت أحياناً، انزلقت نحو الميوعة أحياناً، لكنها تحركت،وفي المقابل، بقي الإعلام العمومي يكرر العبارة ذاتها: “حنا ماشي بحالهم”وكأن المشكلة في الشبه، لا في القدرة على فهم الجمهور.

اليوم، يكاد جمهور القنوات العمومية يقتصر على جيل الخمسينات والستينات والأجيال الجديدة هجرتها بالكامل لأنها لم تجد فيها ما يشبهها أو يعبر عن واقعها،بينما يقضي نفس الشباب ساعات أمام المحتوى الرقمي: فيديوهات قصيرة، بودكاست، بث مباشر، مؤثرون، حوارات تلقائية، ومساحات نقاش شديدة الحيوية.

بهكذا واقع، لم تفقد القنوات العمومية فقط معركة المحتوى، بل خسرت معركة الثقة ومعركة الحضور ومعركة الجيل الجديد.

ما يُقال عادة عن أن المنصّات هي مصدر الابتذال أو الفوضى أو التلاعب، نصف الحقيقة،النصف الآخر هو أنها ملأت فراغاً تركه الإعلام العمومي بسبب غياب رؤية إعلامية رقمية، وغياب تقنين ذكي يحمي دون أن يخنق، وغياب مؤسسة مستقلة تواكب الفاعلين الجدد وتوجّههم.

وحين يُترك الحقل مفتوحاً دون قواعد ولا بوصلة، فمن الطبيعي أن ينبت فيه كل شيء: الرصين والمبتذل، الصادق والمضلّل، المهني والهاوي.

فشل الإعلام العمومي لم يكن بسبب نقص موارد أو طاقات،فشل لأنه ظل وفياً لذهنية قديمة تقوم على التأطير بدل النقاش، الشرح العمودي بدل الحوار الأفقي، التهدئة بدل المحاسبة، والخوف من الجرأة بدل احترامها.

هكذا تحوّل إلى مؤسسة بطيئة، مترددة، فاقدة للبوصلة، غير قادرة على قراءة مجتمع لا يشبه مجتمع التسعينات ولا الألفينات،ووسط هذا الفراغ، تمددت المنصّات، تجذّرت، وفرضت نفسها لاعباً مركزياً، حتى صار السياسيون يخشونها أكثر مما يخشون المعارضة التقليدية، وصار التأثير فيها أهم من الظهور في النشرات الرسمية.

والسؤال الحقيقي اليوم ليس: لماذا فشل الإعلام العمومي؟ بل: هل يريد فعلاً أن يستعيد دوره؟ وهل يملك الشجاعة ليغادر ذهنية التحكّم ويعيد بناء نفسه بمنطق خدمة المواطن لا مراقبته؟ لأن الزمن تغيّر — بقوة وبسرعة — والمنصّات لن تتراجع، والرأي العام لم يعد يتشكل وفق قواعد الأمس،وإما أن ينهض الإعلام العمومي، ويتجدد، ويلتحق بروح هذا العصر…أو أن يترك الزمن يكتب نهايته بصمت.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.