كاب24 – الگارح ابو سالم:
يأتي هذا المقال في سياق محاولة إثراء النقاش الوطني والدولي حول الحكم الذاتي في المغرب، بعيدًا عن القراءة التقليدية للمبادرة كملف تفاوضي فقط. إن الهدف هو تقديم تحليل متكامل لمسار الحكم الذاتي، يوازن بين البعد السياسي، الدستوري، والمجتمعي، ويبرز كيف يمكن لهذا النموذج أن يكون أداة لإعادة توزيع السلطة بشكل متوازن بين المركز والجهات، مع الحفاظ على وحدة الدولة وسيادتها
يعتبر موضوع الحكم الذاتي في السياق المغربي أحد أكثر القضايا تعقيدًا وعمقًا في النقاشين الدستوري والسياسي المعاصرين، لما يجمعه من تداخل بين منطق السيادة الوطنية ومنطق اللامركزية السياسية. فالقضية، وإن بدت في ظاهرها مرتبطة بملف الصحراء المغربية، فإنها في عمقها رهان على إعادة تعريف الدولة المغربية الحديثة، وصياغة علاقة جديدة بين المركز والجهات في إطار الوحدة والسيادة.
لقد قدّم المغرب سنة 2007 مبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي واقعي للنزاع الإقليمي حول الصحراء، غير أن التطورات اللاحقة جعلت من هذه المبادرة أفقًا دستوريًا جديدًا، لا يقتصر على تسوية نزاع بل يفتح أفقًا لإعادة بناء النموذج الترابي الوطني على أسس تشاركية متقدمة. فالمسار انتقل تدريجيًا من منطق الدفاع الدبلوماسي إلى منطق التمكين السيادي، ومن مبادرة تفاوضية إلى مشروع مؤسساتي يُرسّخ في الدستور.
لقد جاء البلاغ الملكي الصادر عن الديوان الملكي في 10 نونبر 2025، عقب اجتماع جلالة الملك محمد السادس مع مستشاريه وزعماء الأحزاب الوطنية، ليؤكد بوضوح هذا التحول التاريخي: الانتقال من مرحلة الترافع إلى مرحلة البناء، ومن الشرعية الدولية إلى الشرعية الوطنية، في أفق تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي ضمن مشروع سيادي مغربي متكامل الأركان، فما تحقق طيلة العقدين الماضيين من اعترافات دولية وقرارات أممية، خاصة القرار رقم 2797 الصادر في 31 أكتوبر 2025، الذي رسّخ مصداقية المقاربة المغربية وجعلها المرجع الوحيد للحل. غير أن المغرب، وهو يمر إلى مرحلة «التحيين»، لم يعد ينتظر الاعتراف من الخارج، بل بات يصوغ واقعه من الداخل بإرادة سيادية تشاركية جامعة.
في هذا السياق، يصبح الحكم الذاتي ، مفهومًا تأسيسيًا لبناء دولة اللامركزية المتقدمة، حيث يعاد توزيع السلطة بين المركز والأقاليم في إطار السيادة الواحدة. فالدستور المغربي لسنة 2011، رغم أنه لا يتضمن نصًا صريحًا حول الحكم الذاتي، فإنه يفتح إمكانيات تأويلية واسعة من خلال فصله الأول الذي ينص على أن «التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة» و هذه الصيغة تتيح إمكانية دسترة نموذج الحكم الذاتي دون المساس بمبدأ وحدة الدولة، عبر تطوير الجهوية إلى جهوية منفتحة تُمنح فيها صلاحيات تشريعية وتنفيذية موسعة للمناطق ذات الخصوصية التاريخية والثقافية، وفي مقدمتها الأقاليم الجنوبية .
وهنا، يتقاطع البعد الدستوري مع البعد السياسي في رؤية واحدة عنوانها الاندماج السيادي،باعتبار ان الدسترة لا تعني فقط تعديل النص، بل ترسيخ ثقافة سياسية جديدة قوامها تقاسم السلطة والمسؤولية.
وإذا كانت التجربة الإسبانية قد جعلت من «المجتمعات الذاتية الحكم» نموذجًا لتدبير التعدد في إطار الدولة الموحدة، فإن المغرب يتجه إلى بناء نموذج وطني خاص، يزاوج بين ثوابت الملكية الدستورية ووحدة الدولة من جهة، وحقوق التدبير الذاتي للمجتمع الصحراوي من جهة أخرى، ويكتسي هذا التحول دلالة مضاعفة: فمن جهة، هو تتويج لمسار دبلوماسي ناجح نقل القضية من نزاع مفتوح إلى مشروع دولة معترف به دوليًا؛ ومن جهة ثانية، هو تجديد للعقد الوطني بين مكونات الأمة حول وحدة التراب ومفهوم السيادة التشاركية.
فالاجتماع الملكي الذي ضم المستشارين فؤاد عالي الهمة، الطيب الفاسي الفهري، وعمر عزيمان مع زعماء الأحزاب الوطنية، لم يكن لقاءً تشاوريًا عابرًا، بل انطلاقة فعلية لمسلسل وطني جديد يروم بلورة تصور تفصيلي للحكم الذاتي، تكون أولى حلقاته توافقًا وطنيًا عميقًا قبل التفعيل المؤسسي.
لقد دخل المغرب، بهذا المعنى، زمن ما بعد التفاوض؛ أي زمن البناء السيادي. فالمقترح المغربي لم يعد مجرد ورقة تفاوضية تُعرض على الأمم المتحدة، بل أصبح مشروعًا وطنيًا قيد التأسيس الدستوري.
وإذا كانت الأمم المتحدة تتحدث عن «الحكم الذاتي الحقيقي»، فإن المغرب اليوم بصدد صياغة هذا «الحقيقي» من داخل مؤسساته، عبر تصور مغربي خالص يستلهم تجارب العالم دون أن يستنسخها.
وهنا تتفرع جملة من التحديات الدستورية والمؤسساتية، أبرزها:
ضمان الانسجام بين النظام المحلي للحكم الذاتي وبنية الدولة المركزية، خاصة في مجالات القضاء والمالية والسياسات الاستراتيجية؛
ضبط العلاقة بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية في تدبير الثروات الطبيعية والأمن الداخلي؛
وتحديد وضعية رئيس السلطة المحلية: هل سيكون ممثلاً للملك والدولة أم رئيسًا لحكومة جهوية مستقلة في مجالات اختصاصها؟
كلها أسئلة تفتح نقاشًا عميقًا حول مستقبل التوازن بين السيادة واللامركزية في النظام الدستوري المغربي، غير أن التحدي الأبرز لا يكمن في النصوص وحدها، بل في القبول السياسي والمجتمعي. فالحكم الذاتي، لكي ينجح، يحتاج إلى تعبئة وطنية شاملة تنبع من الداخل الصحراوي ذاته.
وهنا يبرز الدور المحوري للنخب الصحراوية – من أعيان، منتخبين، أطر، وفاعلين مدنيين – التي راكمت تجربة في خدمة الأقاليم الجنوبية وتشبثًا راسخًا بالوحدة الوطنية، كما أن الكفاءات الصحراوية المنتشرة داخل الوطن وخارجه تمثل الامتداد العضوي للمسار الملكي الوحدوي، وتشكّل حلقة الوصل بين الرؤية الملكية والإجماع الشعبي، في ما يشبه الجيل الثاني من المسيرة الخضراء: مسيرة بناء مؤسساتي بعد التحرير الترابي وبهذا المعنى، فإن تحيين مبادرة الحكم الذاتي يمثل لحظة تأسيسية جديدة في مسار الوحدة الترابية، تُعيد صياغة المشروع الوطني على قاعدة السيادة التشاركية. فالمغرب اليوم لا يناقش مستقبل الصحراء فقط، بل يعيد بناء مفهوم الدولة المغربية الحديثة: دولة موحدة بالسيادة، متعددة بالهوية، متقدمة باللامركزية.
إن دسترة الحكم الذاتي، وفق هذا التصور، ليست نهاية مسار بل بدايته الحقيقية. إنها ترجمة عملية لرؤية ملكية بعيدة المدى تسعى إلى تحويل الإجماع الوطني إلى مؤسسات دستورية، وترسيخ التنمية المندمجة في الجنوب كنموذج للمغرب الموحد.وعندما تتحول الصحراء من قضية سياسية إلى مختبر للسيادة المشتركة والتنمية الديمقراطية، يمكن القول إن المغرب حقق ما لم يحققه غيره،بحيث شكلت المبادرة المغربية للحكم الذاتي تحولا من استراتيجية الدفاع عن الأرض إلى مشروع عملي لتوطيد الدولة وترسيخ سيادتها في الأقاليم الجنوبية .

