المغرب ومسار الحكم الذاتي بالصحراء: السيادة التشاركية ورؤية الدولة الحديثة

0

الگارح ابو سالمCap24 

انطلاقة وطنية للتفاعل الشامل

دخلت المملكة المغربية مرحلة جديدة من التفاعل الوطني الواسع حول قضية الصحراء المغربية، بعد صدور القرار الملكي السامي بإطلاق مسار تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية الكاملة. تعكس هذه الخطوة حرص جلالة الملك محمد السادس على تبني مقاربة تشاركية لإدارة القضايا الوطنية الكبرى، وعلى رأسها قضية الوحدة الترابية، التي تشكل جوهر الإجماع الوطني ومصدر تلاحم المغاربة في الداخل والخارج.

وتأتي هذه المبادرة انسجاماً مع خطاب الملك السامي يوم 31 أكتوبر الماضي، عقب قرار مجلس الأمن رقم 2797، الذي أكّد سيادة المغرب على صحرائه وكرّس المبادرة المغربية للحكم الذاتي كحل واقعي وعملي للنزاع الإقليمي. وعبر الاجتماعات الرسمية التي جمعت بين مستشاري جلالة الملك وزعماء الأحزاب الوطنية ووزيري الداخلية والشؤون الخارجية، تم تدشين مرحلة فعلية لتفصيل المبادرة وتحسين آليات تطبيقها بما يتوافق مع مستجدات المرحلة الإقليمية والدولية، في إطار النهج التشاركي الذي يميز السياسات الوطنية المغربية.

الحكم الذاتي: امتداد للسيادة

يشكّل مشروع الحكم الذاتي نقطة تحول استراتيجية في الفكر السياسي المغربي، إذ يجمع بين الحفاظ على السيادة الوطنية الكاملة، وتمكين السكان المحليين من إدارة شؤونهم اليومية. فالصحراء، جزء لا يتجزأ من التراب الوطني، تظل تحت سلطة الدولة المركزية، فيما تُمنح الجهات صلاحيات واسعة في التعليم، والتنمية، والثقافة، والتخطيط الجهوي. بهذا، يعيد المغرب تعريف العلاقة بين المركز والجهات على أساس الشراكة والمسؤولية، بدل التبعية الإدارية التقليدية.

من المبادرة السياسية إلى مشروع مؤسسي متكامل

منذ إعلان المبادرة سنة 2007، حرص المغرب على تحويل الحكم الذاتي من مجرد مقاربة سياسية ظرفية إلى مشروع مؤسسي متكامل، يعكس فلسفة الدولة الحديثة ويترجم دستورياً ضمن خيار الجهوية الموسعة. فالجهوية لم تكن مجرد إصلاح إداري، بل إطار دستوري لضمان الديمقراطية وكفاءة التدبير وتحقيق العدالة المجالية، ما يجعل الحكم الذاتي جزءاً من مسار عام للدولة المغربية في توزيع السلطة وتحقيق التنمية.

التنمية الواقعية كدليل على السيادة

يميز النموذج المغربي ربط السيادة بالإنجازات الملموسة على الأرض. فقد شهدت الأقاليم الجنوبية تحولاً تنموياً متوازناً خلال العقدين الماضيين، شمل البنية التحتية، والموانئ، والطاقة المتجددة، والمشاريع الاقتصادية الكبرى، مما يجعل من الداخلة والعيون قطبين صاعدين في المجال الأطلسي والإفريقي. هذه التنمية العملية تُعدّ أقوى رسالة سياسية: الصحراء ليست قضية فقط، بل أرض مزدهرة تحت رعاية الدولة المغربية.

المقاربة الواقعية والمسؤولة

تعتمد المبادرة المغربية على مراعاة الواقع المحلي، من خصوصيات قبلية واجتماعية وثقافية، ودمجها ضمن مؤسسات انتخابية ديمقراطية، مما يضمن تمثيلية فعلية للسكان ويعزز الاندماج الوطني. تحتفظ الدولة بمهامها السيادية في الدفاع والعلاقات الخارجية والعملات، بينما تُمنح الجهات سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية في الشؤون المحلية وفق الدستور، ما يخلق توازناً دقيقاً بين السلطة المركزية والإدارة المحلية.

أفق استراتيجي يتجاوز النزاع

يمثل الحكم الذاتي أكثر من حل سياسي للنزاع الإقليمي؛ إنه تصور جديد للسيادة الوطنية: مرنة، تشاركية، وقادرة على التكيّف مع مستجدات العصر دون التفريط في وحدة الأرض والرمز. إنه مشروع وطني متكامل يجمع بين البعد السياسي والمؤسساتي والتنمية الواقعية، ويُعبّر عن دولة قوية بسيادتها، متجددة في رؤيتها، ومنفتحة في تدبيرها، قادرة على مواجهة التحديات الإقليمية والدولية بثقة ومسؤولية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.