الكارح أبو سالم Cap24
في إطار سلسلة حلقات تتبع كاب 24 لكواليس عدد من الاختلالات المرافقة لتدبير مجال الإعلام السمعي البصري الرسمي ببلادنا ، والذي يعرف قصورا ملموسا من بني جلدته صحفيا في تناول مواضيع تهم شؤونه ، وذلك بحكم القبضة الحديدية التي تطاله منذ حقبة من الزمن.
فمنذ أن أُقرّ نظام طلبات العروض في الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة وشركة صورياد-دوزيم خلال فترة حكومة العدالة والتنمية، قُدِّم هذا الإجراء للرأي العام بوصفه آليةً لتكريس الشفافية وتكافؤ الفرص والقطع مع منطق “الصفقات المغلقة”. كانت النوايا – في ظاهرها – نبيلة، غير أن الطريق إلى الاحتكار كثيراً ما يُعبَّد بالنوايا الحسنة.
فما إن بدأ العمل بهذه الآلية حتى ظهرت أولى الشقوق في جدارها النظري: فبدل أن تكون وسيلة لتوسيع دائرة المشاركة، تحولت عملياً إلى نظامٍ مغلق يُعيد إنتاج نفس الأسماء والشركات سنةً بعد أخرى، تحت ذريعة أن “القانون لا يمنع”. وهكذا، وجدنا أنفسنا أمام مفارقة صارخة: آلية وُجدت لمحاربة الزبونية، فإذا بها تُكرّسها باسم القانون.
من الشفافية إلى “التحكّم”
الذين واكبوا مرحلة حكومة بنكيران يتذكرون كيف دافع بعض أعضائها بشراسة عن فلسفة طلبات العروض، باعتبارها “ممرّاً إجبارياً نحو النزاهة ، لكن سرعان ما ظهر أن العملية لم تكن بريئة تماماً، إذ جرى – حسب ما راج آنذاك – توظيفها لترسيخ نفوذ شركات قريبة من دوائر محددة، قيل إنها ستكون الأداة الأنجع لاختراق البيوت المغربية وتمرير خطاب معيّن.
غير أن هذه الخطة، التي نُسجت بخيوط سياسية وإيديولوجية دقيقة، باءت بالفشل منذ بدايتها، بعد أن تم الانقلاب عليها وتغيير من كان يقود “الهاكا” بدعوى أنهم سهّلوا تمرير هذا التوجه.
لكن المفارقة أن المبدأ نفسه لم يُلغ، بل استمرّ وتحوّل مع الوقت إلى واجهة جديدة للاحتكار باسم المنافسة. فبينما كان من المفترض أن تُتيح طلبات العروض عدالة في التوزيع بين شركات الإنتاج، صارت اليوم تُمنح – في أغلب الحالات – إلى قلةٍ قليلة من الشركات، تستحوذ على النصيب الأكبر من كعكة الإنتاج العمومي، وتُعيد تدوير نفس الوجوه والمضامين.
الإبداع رهين بمنطق الصفقة
إنّ الإبداع، بطبيعته، لا يُدار بآلية طلب عروض باردة ولا بمسطرة محاسبية جامدة. الإبداع يُدار بفكر منفتح، برؤية تحريرية، بقرارات تُبنى على الكفاءة والتجربة والتميز، لا على دفاتر الشروط وحدها.
لقد كان الإنتاج المباشر في العقود الماضية، رغم ما شابه من هنّات، أكثر دفئاً ومرونة من النظام الحالي، إذ كان المسؤولون في القنوات العمومية يُشرفون على متابعة المواد الإبداعية بأنفسهم، يناقشونها مع المهنيين والممارسين، ويستمعون إلى رأي من لهم باع طويل في المجال.
أما اليوم، فقد اختُزل كل شيء في أوراقٍ تُودع، ونقطٍ تُمنح، ونتائج تُعلن… والنتيجة: انحدار في الجودة، وركود في التنوع، وتدهور في شروط العمل.
شركات اغتنت… ومبدعون أفلسوا
تحت شعار “القانون لا يمنع”، تحوّلت طلبات العروض إلى سوق مغلقة تشتغل فيها شركات محدودة بعدد ضخم من الأعمال في السنة، فيما تُقصى عشرات المقاولات الصغرى والمتوسطة التي لم تحصل على أي مشروع منذ سنوات.
وأخطر من ذلك أن هذه الشركات الكبرى تفرض على الفنانين والتقنيين نظام “الباكيدج” (Package)، أي العمل في ثلاثة أو أربعة أعمال متتالية مقابل تخفيض الأجر، مما جعل كثيراً من العاملين يعيشون أوضاعاً مزرية، في حين راكمت بعض الشركات ثروات طائلة في زمن قياسي.
بهذا الشكل، ضُرب التوازن في سوق الإنتاج، وتراجعت العدالة المهنية، وتحوّل الحلم بالشفافية إلى كابوس احتكار مقنّن.
هل آن الأوان لإعادة النظر؟
لقد أصبح سؤال إلغاء طلبات العروض أو مراجعتها مطروحاً بإلحاح، ليس كدعوة للعودة إلى الوراء، بل كحاجة لتصحيح المسار.
ففي تقارير “الهاكا” الأخيرة، يتكرّر التحذير من هشاشة البنية الاقتصادية لقطاع الاتصال السمعي-البصري، ومن محدودية الابتكار والتجديد في الإنتاج العمومي، ومن ضرورة الانتقال إلى نموذج جديد يراعي الجودة والقدرة التنافسية ويمنح الفاعلين استقلالية أكبر.
كما أنّ المعطيات المتاحة تشير إلى أن أكثر من ثلث شركات الإنتاج المسجلة لم تشتغل منذ سنوات، وأن السوق الوطنية تعاني من ضعف في التوزيع وفراغ في الفئات الإبداعية الوسطى.
نحو صناعة إعلامية حقيقية
إنّ المغرب مقبل على رهانات كبرى، أبرزها تنظيم كأس العالم 2030، وهو حدث تاريخي يفرض علينا إعادة هيكلة القطاع السمعي-البصري الوطني حتى يكون قادراً على إنتاج محتوى يواكب هذا الموعد الكوني.
فلا يمكن الحديث عن صناعة سمعية-بصرية تساهم في الناتج الداخلي الخام إذا ظلّت رهينة لمنطق “العروض والصفقات”، بدل منطق “الرؤية والرسالة”.
الصناعة الحقيقية تحتاج إلى:
• تحفيز الإبداع،
• تنويع مصادر الإنتاج،
• حماية المبدعين والعاملين،
• وتحرير القنوات العمومية من البيروقراطية التي تخنق روح الفن.
تمهيد لسلسلة مقالات قادمة
وسنفتح في مقالات لاحقة قوساً أوسع للحديث عن لجن الانتقاء التي أفرزت هذا المنتوج الذي نراه على شاشاتنا، وعن ظروف ومساطر اشتغال الشركات المنتجة، وعن الهوامش القانونية التي تُستغل أحياناً لتجاوز روح الدفاتر، إلى جانب نقاشٍ صريح حول دور الهولدينغ العمومي في إعادة الاعتبار لهذه الصناعة الحيوية.
لأنّ ما يجري في كواليس الإنتاج السمعي-البصري اليوم ليس تفصيلاً مهنياً، بل مرآة تعكس مستقبل الإعلام الوطني، وورشة يجب أن تُفتح للنقاش، بكل مسؤولية وجرأة.
لقد آن الأوان لأن نعيد للإبداع مكانته، وللعدالة معناها، وللقطاع السمعي-البصري المغربي روحه التي فقدها بين ملفات طلبات العروض، وصفقات لا تثمر سوى مزيدٍ من العجز والتكرار. فالإبداع لا يُطلب في عرض، ولا يُنتج في صفقة، بل يُصنع في رؤية وطنية شجاعة تؤمن بأن الإعلام رافعة تنمية، لا أداة تحكم

