الكارح أبو سالم
في الثامن عشر من شهر يناير المقبل، تُسدل الستارة على واحدة من أكثر دورات كأس إفريقيا للأمم إشراقاً وتأثيراً في تاريخها الحديث، دورة احتضنها المغرب ونجح من خلالها في نقل التظاهرة القارية إلى مستوى غير مسبوق من حيث التنظيم، والانتشار، والقيمة الاقتصادية. ومع اقتراب لحظة الختام، يحدو المغاربة أملٌ مشروع في أن يكون التتويج حليف المنتخب الوطني، انسجاماً مع حجم الرهان وضخامة المجهود المبذول، وباعتبار أن كرة القدم، في نهاية المطاف، لا تُقاس فقط بحسن التنظيم، بل أيضاً بثمار الإنجاز فوق المستطيل الأخضر.
لقد فرضت نسخة المغرب نفسها كحدث استثنائي، ليس فقط على المستوى الإفريقي، بل في المشهد الكروي الدولي عموماً. فالتنظيم المحكم، وجودة الملاعب، وسلاسة التنقل، وتنوع الخدمات، جعلت من كأس إفريقيا 2025 تظاهرة ذات معايير عالمية، رفعت من قيمتها التسويقية وحققت أرقاماً قياسية في المداخيل، سواء من حقوق البث التلفزيوني، أو عقود الرعاية، أو التذاكر والضيافة. أرقام تعكس بوضوح أن هذه البطولة تجاوزت منطق “الحدث الرياضي” لتدخل مربع الصناعة الاقتصادية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ولم يكن الإقبال الجماهيري أقل دلالة؛ فقد عرفت البطولة توافد عشرات الآلاف من المشجعين القادمين من أكثر من 135 دولة، في مقدمتها دول أوروبية تضم جاليات إفريقية كبيرة، ما منح التظاهرة بعداً دولياً واضحاً، وجعل الملاعب المغربية فضاءات للقاء الثقافات وتبادل الشغف الكروي. بهذا المعنى، لم تعد كأس إفريقيا في المغرب حدثاً إفريقياً محدوداً، بل تحولت إلى بروفة حقيقية لما يمكن للمملكة أن تقدمه عند تنظيم كأس العالم، سواء على مستوى الجاهزية اللوجستية أو القدرة على إدارة حدث كوني متعدد الأبعاد.
ولا شك أن حجم الاستثمار الذي رافق هذه التظاهرة كان كبيراً، وأن آثاره ظهرت جلياً في قطاعات السياحة، والنقل، والفندقة، والخدمات، ولو خلال فترة زمنية قصيرة. غير أن هذا النجاح يطرح، في العمق، سؤالاً لا يقل أهمية عن فرحة التنظيم: كيف يمكن تحويل هذا الزخم الاقتصادي والرمزي إلى مكسب حقيقي لكرة القدم المغربية؟
فبعيداً عن الخطاب الذي يختزل كرة القدم في كونها “أفيون الشعوب”، تؤكد الوقائع أن هذه الرياضة باتت من أكبر الصناعات في العالم، ومصدراً أساسياً للثروة والنفوذ الناعم. لكن المفارقة تكمن في أن العائدات الكبرى غالباً ما تذهب إلى الهيئات المنظمة، بينما تظل الدول المستضيفة، رغم تحملها كلفة الاستثمار، تبحث عن طرق غير مباشرة لتعويض ما أنفقته.
من هنا يبرز التحدي الحقيقي أمام المغرب اليوم: كيف نجعل من كأس إفريقيا رافعة لتقوية بطولاتنا الوطنية؟ فالواقع يؤكد أن ما يُسمى بالاحتراف الكروي في المغرب لا يزال، في كثير من جوانبه، احترافاً شكلياً. أندية تعاني من ضائقة مالية مزمنة، ولاعبون يفتقدون للاستقرار النفسي والمادي، وفرق تكافح فقط من أجل البقاء، لا من أجل صناعة التميز والمنافسة القارية.
إن المرحلة المقبلة تفرض رؤية جديدة، قوامها الانتقال من منطق التنظيم الظرفي إلى منطق البناء المستدام. كرة القدم الوطنية في حاجة إلى بيئة تمويلية قوية، وإلى انخراط حقيقي للمستثمرين والشركات الكبرى، حتى تخرج الأندية من عزلتها، وتتحول إلى مؤسسات اقتصادية قادرة على الإنتاج والتطور. كما أن الاستثمار في التكوين لم يعد خياراً ثانوياً، بل ضرورة استراتيجية، بحيث لا تظل صناعة المواهب محصورة في نموذج واحد، بل تعم جميع الأندية عبر أكاديميات حقيقية ومهيكلة.
المغرب، وهو على أعتاب تنظيم كأس العالم، مطالب بأن يجعل من كرة القدم رافعة تنموية حقيقية، تساهم في الناتج الداخلي الخام، وتخلق فرص الشغل، وتفتح آفاقاً جديدة للشباب. حينها فقط يمكن القول إن نجاح كأس إفريقيا لم يكن مجرد لحظة عابرة، بل خطوة واثقة في مسار بناء كرة وطنية قوية، تستفيد من الحدث بقدر ما تُسهم في إنجاحه.
أما الاكتفاء بلعب دور المنظم النموذجي دون أن ينعكس ذلك على عمق المنظومة الكروية الوطنية، فسيجعل من كل هذا النجاح مجرد مجد مؤقت… جميل في صورته، محدود في أثره


