هذا ما كان ف الكان..! اليوم 29/01 استوديو 1بين ذاكرة الوطن وهشاشة الرهان الظرفي

0

الكارح أبو سالم 

ركن “ هذا ما كان ف الكان “اختارته جريدة Cap24 كموعد يومي نلتقي فيه لمناقشة المونديال الإفريقي من زوايا متعددة.
اخترنا له هذا الاسم لأن ما نطرحه لا يُستولد من الخيال، بل يُبنى على ما شاهدناه وتابعناه ميدانيًا، وعن كتب وبصفة يومية .
نكتب من الواقع، لا من الإشاعة، ونُقيّم بالمعاينة لا بالمجاملة.
سنُدقّ ناقوس التنبيه حين يستوجب الأمر ذلك، ونُصفّق حين يكون التصفيق في مكانه، وحتى إن كان ما سنقوله جارحًا، سنقوله بصدق… ونكتبه دون تردد

استوديو 1بين ذاكرة الوطن وهشاشة الرهان الظرفي

خطوة هدم استوديو 1 بالإذاعة الوطنية من قبل مهنيين ومتابعين بأنها كارثة ثقافية بكل المقاييس، ليس لأن الأمر يتعلق ببناية تقنية عادية، بل لأننا أمام فضاء شكّل، لعقود، الذاكرة السمعية الحية للمغرب الحديث. استوديو لم يكن جدرانًا وأجهزة، بل مستودع وجدان، ومرآةً لتحولات الفن، ووعاءً لصوت الوطن في لحظاته الفارقة.

عدد من الوجوه الصحفية التي رصعت بحضورها استديو التلمساني 
منذ خمسينيات القرن الماضي، احتضن استوديو 1 ولادة الأغنية المغربية الحديثة، ومن داخله خرجت أعمال خالدة لرواد كبار أمثال أحمد البيضاوي، عبد السلام عامر، عبد الرحيم السقاط، عبد القادر الراشدي، عبد النبي الجيراري، عبد الوهاب أكومي، ومحمد بن عبد السلام. هنا سُجّل نشيد العودة، وهنا دوّى القمر الأحمر، وهنا وُثقت كامل أغاني المسيرة الخضراء؛ وهنا كانت محطات الحوارات السياسية الساخنة والضيوف الوازنين ، هنا كانت حتى أنشطة البراعم والأجيال التي نصادفها اليوم بمناصب المسؤولية ، هنا سجلت اروع لحظات القناة الصغيرة ، مفارقة صادمة أن يُهدم هذا الفضاء بالتزامن مع مرور خمسين سنة على المسيرة، وكأن الذاكرة الوطنية تُستبدل بالإسمنت البارد في لحظة رمزية شديدة الحساسية.
ولم يكن إشعاع هذا الاستوديو محصورًا في الغناء العصري، بل كان حارسًا أمينًا للطبوع العريقة: الطرب الأندلسي مع مولاي أحمد الوكيلي، عبد الكريم الرايس، والتمسماني، وفن الملحون بأصوات البريهي، التهامي الهاروشي، والحسين التولالي. كما كان مسرحًا لتسجيل أرقى التمثيليات والمسلسلات الإذاعية التي لا تزال تسكن الذاكرة الجماعية، بأسماء صنعت العصر الذهبي للإذاعة المغربية: عبد الله شقرون، محمد حسن الجندي (ملحمة سيف ذي يزن)، محمد إحمد البصري، العربي الدغمي، حمادي التونسي، حمادي عمور، حميدو بنمسعود، إلى جانب رائدات من قبيل أمينة رشيد، نعيمة المشرقي، صفية الزياني، وحبيبة المذكوري.
بل إن استوديو 1 تجاوز الحدود، فاستقبل رموز الغناء العربي: عبد الحليم حافظ، فريد الأطرش، وديع الصافي، سعاد محمد، فايزة أحمد، هدى سلطان، وصباح التي سجلت فيه أغنيتها الشهيرة «ما أنا إلا بشر» بطلب من الراحل الملك الحسن الثاني، في دلالة على المكانة الاستثنائية لهذا الفضاء داخل المغرب وخارجه.
ورغم كل هذا الرصيد الرمزي، جاء قرار الهدم في سياق مسلسل مقلق بدأ بمحو قسمي الموسيقى والتمثيل، ليُتوَّج اليوم بإزالة استوديو 1، وتعويضه ببلاطو مخصص للتغطيات الرياضية، بدعوى مواكبة كأس إفريقيا وكأس العالم. غير أن المفارقة المؤلمة أن الرهان التقني الذي بُرر به الهدم لم يُترجم إلى إنجاز يليق بالتضحية.

الصحفي مصطفى العلوي قيدوم الصحافيين بالاذاعة والتلفزة المغربية 

فالبلاطو الجديد، رغم المساحة المعلن عنها، بدا في أول مشاهدة تقليديًا، فقير الرؤية، محدود الخيال: ديكور طبيعي بلا روح، إخراج بلا اجتهاد، كابلات مكشوفة، ديكور افتراضي متواضع، ونقل مباشر يوحي بأننا ما زلنا في البدايات الأولى لتجارب الاستوديوهات الافتراضية. أما المحتوى، فظل حبيس منطق تقليدي: انتقال روتيني إلى المراسلين، تصريحات مستهلكة، وغياب شبه تام للكبسولات الإبداعية والبورتريهات التي تمنح المادة عمقًا وسياقًا.
في المقابل، أظهرت قنوات وطنية أخرى، كالقناة الثانية وميدي 1 تيفي، تفوقًا واضحًا من حيث الرؤية والانفتاح والتماهي مع تحولات التلفزة الحديثة، عبر إدماج عناصر من تلفزيون الواقع، وتحديث أساليب السرد والمعالجة، بما يستجيب لتطلعات المشاهد اليوم.
وهنا يطرح السؤال نفسه بإلحاح: هل كان لا بد من هدم ذاكرة وطن من أجل بلاطو عابر، لم يضف قيمة نوعية تُذكر؟ وهل يعقل أن تُمحى هوية فنية وثقافية متجذرة، من أجل إنجاز تقني ظرفي، سرعان ما سيتقادم؟

إن ما جرى لا يمكن اختزاله في قرار إداري أو رؤية تقنية ضيقة، بل هو فعل ثقافي خطير يمس صميم الهوية المغربية الحديثة. فالدول التي تحترم تاريخها لا تهدم ذاكرتها بالجرافات، بل تُحوّلها إلى متاحف، معالم حية، وفضاءات للتكوين والتأمل. أما حين تُهدم الذاكرة، فإن الوطن يُصاب في عمقه.
ختامًا، يبقى السؤال مشروعًا ومقلقًا: من يملك حق دفن ذاكرة وطن؟ ومن المستفيد من محو تاريخ فني كامل بدم بارد؟
إن المغرب، بتاريخ ضارب في العمق، لا يمكنه أن يبني مستقبله الإعلامي والثقافي عبر محو ماضيه، لأن الأمم القوية لا تختار بين الذاكرة والتحديث، بل تجمع بينهما..

ترقبونا غدا في الحلقة 2/29، بهذا ما كان فالكان 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.